[معارضة السنة بالعقل ومعارضته لها]
مما يدعو للأسف أن الخلائف عندما جاءوا لم يكلفوا أنفسهم النظر فيما حققه الأسلاف! يا ليتهم نظروا، لكنهم طرحوا هذه الجهود وراء ظهورهم، وطفقوا يعترضون على السنة، كلما نقل إليهم كلام لا يستسيغونه، جعلوا عقولهم حاكمةً على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتكروا أشياء هم لا ينفذونها في واقع حياتهم.
يقولون مثلاً: أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة، مع أنهم يقبلون أخبار الآحاد من الكافرين، هذا الذي ينكر الشفاعة الآن، كونها جاءت عن طريق الآحاد، وهذا ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، إنما هو مذهب المعتزلة، الذين يخلدون المذنبين أهل الكبائر في العذاب، ويحتجون بحجج واهية قد رد عليها أهل السنة، وما تركوا قولاً لقائل، وأتوا على بنيانهم من القواعد، فيأتي هذا الآن في الوقت الحاضر فيعرض أدلة المعتزلة يحسب أن أهل السنة لم يردوا عليها.
لو أن هذا الإنسان أو غيره من المعترضين على السنة بعقولهم، أصيب بمرض وسافر إلى بلاد الغرب، فقال له الطبيب: أنت مريض بالمرض الفلاني، وأنت ستخضع لعلاج مكثف، وتأخذ الأدوية الفلانية، ترى: هل يقول له: أنت طبيب واحد -يعني: أنت فرد- ومن الممكن أن تخطئ في التشخيص، فلو سمحت ائتني بثلة من العلماء الأطباء -عشرين طبيباً، أو ثلاثين طبيباً- ممن يقع بهم التواتر، ويقولون: إنني مريض بالعلة الفلانية؛ حتى أسلِّم لك! هل سمعتم بهذا في العالمين: أن رجلاً ذهب إلى طبيب، فقال له: أنا لا أقبل كلامك، حتى تأتيني بأطباء يبلغ عددهم حدَّ التواتر، ولا يجوز عليهم الخطأ؛ حتى أقتنع بكلامك، وآخذ العلاج؟ ما علمنا أن أحداً قال هذا الكلام! فلماذا يقولونه في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهذا الذي قال له: أنت مريض بالمرض الفلاني رجلٌ كافر، يعني لا ينعقد به خبر، فضلاً عن أن ينعقد به اليقين، ومع ذلك يسلِّمون له، فإذا اعترضنا عليهم بهذا القول اتهمونا بالجهل، وأنه لم يقل أحدٌ بقولنا.
ثم يجوزون الأشياء العقلية التي لم يجر عمل الناس عليها، يجوزونها في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ويأبونها في كلام الناس وفي أخبار الناس، فمثلاً: هل هناك امرأة معصومة بالنص من الزنا أي امرأة كانت؟! غير النساء اللاتي برأهن الله تعالى وعصمهن من الزنا، نحن نقول: إن العفيفات كثيرات، لكن قد تكون عفيفة وتزل مرة -وهي عفيفة-، وهذا الخطأ قد يرتكب بسبب ضعف الإيمان، ومع ذلك لا يزيل الخطأ اسم الإيمان عنها، فأي امرأةٍ في الدنيا ممكن عقلاً أن تزني، وليس هناك دليل على عصمة هذه المرأة ويستحيل منها الزنا
السؤال
أليس من الجائز أن يكون الولد الذي تعتقد في نفسك أنه ولدك، يكون ولد رجل آخر أتت به المرأة؟ نحن الآن نتكلم بالعقل مثلما يتكلمون في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي يتكلم في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا العقل المجرد، لو أني قلت له: إن هذا الولد الذي ينسب إليك في الهوية -في البطاقة وفي الأوراق الرسمية- ليس ولدك عقلاً، احتمال أن تكون امرأتك زنت، وهي ليست معصومة من الزنا؛ لأنكر ذلك أشد الإنكار، ولجزم أن امرأته عفيفة، ونحن لا ننكر ذلك، لكن نقول: عقلاً يجوز للمرأة أن تزني، وعقلاً يجوز لأي رجل أن يشك في نسب ولده، لكن هل جرى هذا الكلام بين الناس؟ لم يجر.
المرأة تلد الولد ابن سبعة أشهر، ابن ثمانية أشهر، يقول الأطباء: إنه يلزمه أن يدخل الحضانة لمدة شهر، حضانة فيها عشرات الأطفال، فأول ما يولد الولد قبل أن تتحقق من شكله، وقبل أن تعرف أن هذا ولدك تضعه في الحضانة، ويكون له رقم، أليس من الجائز أن تخطئ الممرضة فتأتيك بولدٍ ليس هو ولدك، أو هذا مستحيل؟ جائز عقلاً أم لا؟ جائز عقلاً، فكيف ساغ لك أن تسلم لهذه الممرضة مثل هذا الأمر الخطير، وتأخذ الولد مسلِّماً ومطمئناً مائة بالمائة أنه ولدك، مع أنه جائز عقلاً أن تخطئ الممرضة فتأتيك بغير ولدك.
لماذا لا يعمل بهذا؟ مع وجود الفساد العريض المترتب عليه، فلماذا يأخذون هذا الجواز العقلي ويجعلونه في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يا ليتهم استضاءوا بكلام أهل العلم الأوائل، لكن يأتون بأدلة المعتزلة في إنكار الشفاعة مع أن أهل السنة والجماعة قد ردوا على المعتزلة، أراد أن يعيدها جذعة مرةً أخرى في زمن انتشر فيه الجهل، بحيث قد أصبح الناس لا يعرفون من الدين إلا قليلاً، فتراه يأتي بالآيات المطلقة التي خصصت بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: أن لا شفاعة لأحد، إنما هي لله، ويستدل بهذه الآيات يقول تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:٤٨]، فهذا نصٌ في عدم قبول الشفاعة على الإطلاق، وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:١٨]، وقال عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:٤٨]، وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:٤]، {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:٧٠]، ويأتي بهذه الآيات، ويقول: هذه الآيات فيها دليلٌ على أن الشفاعة لا تكون لأحد.
فنقول من القرآن: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] أين ذهبت هذه الآية، وهذا دليلٌ واضح على أن الله يأذن لبعض الناس أن يشفعوا وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦]، إذاً سيأذن لبعض عباده، ويرضى عن شفاعتهم، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣]، إذاً هناك استثناء، وهناك إذن بالشفاعة لمن شاء سبحانه.
لماذا طويت هذه الآيات؟ ولماذا لم تبين وتوضع بجانب الآيات الأخرى؟ هذا هو المكر، ينقلون شيئاً ويتركون أشياء، وقد أجمع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على قبول الأحاديث المتكاثرة، التي بلغت درجة التواتر العلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع، وأن المؤمنين يشفعون، وأن الشهداء يشفعون، ووردت في ذلك أحاديث صحيحة، فما هي المصلحة أن يأتي رجل على طائفة من الأخبار ويأخذها ويترك ما عداها؟ هذه فتنةٌ قديمة أطلت برأسها الآن وقد دحرها أهل العلم قديماً، وانتهت، ثم بدأت تعود جذعةً مرةً أخرى، والسبب في ذلك: غياب حرس الحدود، العلماء الرسميون ليس لهم رد فعل حتى الآن، مع أن هذا العفن يطفح يومياً على صفحات الجرائد والمجلات، وليس هناك رد فعل، وينبغي أن تصان عقائد الناس، ولا يسمح لهؤلاء أن يتكلموا إلا بشهادة تخصص، لماذا يتكلم الكل في دين الله عز وجل، ولا يحترمون أهل التخصص؟ العلماء هم الذين يقولون: هذا مستحب هذا واجب هذا مباح هذا مكروه هذا حرام هذا حقهم وملكهم، ومع ذلك يريدون أن ينتزع هذا الحق منهم، ويقولون: الحق هذا يذهب للأطباء، مع العلم أن الطبيب لا يجوز له أن يقول: هذا حرامٌ شرعاً أو هذا حلالٌ شرعاً، لا يجوز له ذلك.
الختان فيه أحاديث، وطالب الأزهر من يوم أن أنشئ وهو يقرأ في كتاب الطهارة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ختان الرجل وختان المرأة.
وفي صحيح البخاري: (اختتن إبراهيم بالقدوم لما بلغ ثمانين عاماً) ونحن مطالبون بملة إبراهيم، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:١٢٣]، فملة إبراهيم تلزم المؤمنين جميعاً رجالاً ونساءً، فإذا كان إبراهيم عليه السلام اختتن بالقدوم، فهذا فيه مشروعية الختان للرجال والنساء معاً، إذ الأدلة تعم الرجال والنساء، ولا يقال: هذا للرجال دون النساء إلا بدليل، كأن يقال: ثبت الدليل أن النساء لا يشرع في حقهن الختان.
فلما نقلوا هذا إلى غير أهل التخصص أغرى ذلك الجهلة بخطوة أخرى مما جعل امرأة قد بلغت من العمر سبعين سنة، تقول في مقال لها: وبعد أن كسبنا الجولة الأولى في استصدار قانون بتحريم ختان النساء، فأنا الآن أطالب بمنع ختان الرجال.
ليس عندها حياء، حتى لو كان لها وجه، ليس عندها حياء حيث تقول: أطالب بمنع ختان الرجال، ومن ثم تتكلم أن هذا أصلاً يؤثر على المسألة الجنسية! امرأة بلغت من العمر سبعين سنة، ما هذا الهوان الذي بلغناه؟! هذا معناه أنها ترتفع على كل رجل يحمل العلم الشرعي في هذا البلد، ومع ذلك لم تعاقب المرأة، ولا قيل لها: لقد تعديت الحدود، كيف تطالبين بمنع ختان الرجال، ولم يرد عليها المهتمون بالشريعة، بل أول من رد عليها الأطباء، لأنهم يعتقدون أن هذا من تخصصهم، مع أنه من خصائص أهل الشريعة بالدرجة الأولى.
إن عمل وفعل هؤلاء الملبسة أغرى كثيراً من الجهلة في أن يطعنوا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبدءوا يأتون بالأحاديث التي لا يفهمونها، ولا يعرفون وجهها، ويعترضون عليها، وأسهل شيء عندهم هو أن يقول لك: هذا مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام.
ولو أتيتهم بكل آية لم يؤمنوا؛ لأنه ليس لديهم منهج علمي يتحاكمون إليه، اعلم أن الأخبار تقوم على الصدق والكذب، فالصادق يقبل خبره، والكاذب يرد خبره، والمتوهم نتوقف في خبره حتى نتأكد أنه محق، هنا الضابط العام لقبول الأخبار، فهؤلاء إذا جاء حديث بسندٍ واحد، هذا الحديث كأن يكن في سنده مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وهذا إسناد كالشمس، مالك بن أنس الإمام العلم، ونافع مولى ابن عمر، وابن عمر صاحب النبي عليه الصل