للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة موسى مع ابنتي صاحب مدين وغيرته عليهما]

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١] أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد كان من خبر موسى عليه السلام أنه لما انكشف أمره، أنه هو الذي قتل القبطي، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:٢٠] * {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:٢١]، الفاء في قوله تعالى: (فَخَرَجَ) فيها دلالة على المبادرة بالخروج.

بمعنى أنه خرج بلا زاد، بلا أهبة استعداد، خرج بلا دليل يدله، وما بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، خرج على الفور، خرج جائعاً، طريداً، خائفاً، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٢]، هو عار من قوى الأرض كلها، {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٢]؛ لم تكن له عدة على الإطلاق، إنما خرج فاراً ناجياً بنفسه، وفي قوله تعالى: (تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) فيه دلالة على أنه لم يكن يعرف أين يتوجه؟! إنما خرج هارباً، ما قصد بلداً بعينه، وهذا واضح من كلمة تلقاء.

تلقاء: أي في تلقائية، ليس هناك ترتيب، إنما خرج هارباً، وهذا أدعى للحيرة، وهو المناسب للخروج بلا عدة ولا ترتيب.

فتصور رجلاً خرج بلا أي زاد، ولا يدري إلى أين يذهب، يحمله ليل ويحطه نهار، مثل هذا الذي صنعه الله عز وجل على عينه لا يكون معتمداً بقلبه إلا على الله، إنني أقول ذلك لتعيش هذا الدور، ولتعلم أن الذي يتوجه إلى الله عز وجل بقلبه فإنه لا يخيبه، إنك لو قصدت رجلاً شريفاً نبيلاً، وقلت له: احمني فإنه لا يسلمك إلى عدوك؛ لأن هذا هو المناسب لكرمه وحلمه ونبله وشرفه.

لما خرج سفيان الثوري رحمه الله هارباً من الخليفة، لقيه أحد عمال الخليفة، وكان رجلاً جواداً كريماً اسمه معن بن زائدة، فلما لقيه معنٌ وكان لا يعرفه، قال له: من أنت، قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فقال: نشدتك الله لما انتسبت إلي؛ لأنه بإمكان أي واحد في الدنيا أن يقول: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فناشده الله أن ينسب نفسه، فقال: أنا سفيان، ومعلوم أن سفيان الثوري آنذاك كل الناس تبحث عنه، قال: أنا سفيان، قال: سفيان بن سعيد، قال: نعم.

وكان من المفروض أن يقبض عليه، ومعن بن زائدة أحد عمال الخليفة، يعني بمثابة المحافظ الآن.

فقال له: خذ أي طريق شئت، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها يعني: أنا لا أسلمك.

وهكذا جرت سنة الرجال النبلاء، فكيف برب العالمين!! قال صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، حسن الظن بالله عز وجل يقوي القلب على العمل.

لأنك تعلم أنه يقوي ضعفك وأنه محيط بعبيده، وأنه ذو القوة المتين.

فالذي خرج بتلقائية بلا إعداد ولا ترتيب: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٢]، دخل مدين بعد ثمانية أيام، لم يكن له طعام في هذا السفر الطويل إلا ورق الشجر، قلنا: خرج بلا زاد، إذاً: دخل مدين وهو مكدود، متعب، مجهود، يتمنى الراحة، خرج خائفاً يطلب الأمن وهو لا يدري ما تخبئ له المقادير، خرج هذا الإنسان فاراً من الخوف فوقع في خطب أعظم مما فر منه؛ لأنه لا يدري ما يخبئ له القدر.

فلما دخل مدين وجد أمة من الناس، أي: خلق كثيرون: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:٢٣]، تذود: أي: تكف الغنم عن البئر.

هذا يوم الورد، أي ورد الماشية على السقيا، وكل رجل من هؤلاء الرجال معه غنم ومعه بهائم، والكل حريص على أن يسقي ويرجع، والكل يتزاحم، لكنه وجد امرأتين تذودان الأغنام حتى لا تختلط بأغنام القوم: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:٢٣]، لاحظ كلامه: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣].

وهنا تظهر العضلات!! والشجاعة ما خطبكما؟ والمرأة الحرة لا تخالط الرجال.

المرأة الحرة درة مكنونة وجوهرة مصونة، إنما يخالط الرجال الإماء اللواتي يُشترين من الأسواق، وإنما الحرة مخبأة، لا يراها أحد؛ لأنها حرة، والقائم عليها حر، فهو يستنكر أن تخرج امرأته ليراها الخلق، ولذلك قال موسى -حين رأى امرأتين حرتين تختلطان بالرجال- قال: ما خطبكما؟ الخطب الذي هو المصيبة، يعني: أيُّ مصيبة أوقعتكما حتى اختلطتما بالرجال، المرأتان كانتا مرهفتا الحس لما سمعتا: ما خطبكما؟ قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣].