[مشروعية الهجرة إلى الله تعالى بترك الأهل والأوطان]
حتى تتم لذلك لتتم البراءة شرعت الهجرة، وشرع الهجر، وشرعت العزلة فأما الهجرة فنوعان: هجرة، وهجر.
هجرة بالبدن، وهي: مفارقة الأرض والخلان والأخدان والإخوان, وهذا أعظم ما يفعله العبد المتبرئ من أعداء الله عز وجل؛ لمشقته على النفس، وأول من هاجر هو إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:٢٦] {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:٩٩]، فشرعت الهجرة بعده؛ إذ أن الله عز وجل امتن عليه بأن الحنيفية السمحة كانت على يديه {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:١٢٣]، فسنت الهجرة بالبدن ومفارقة الأرض لكل مؤمن يدين بدين الحنيفية بعد إبراهيم عليه السلام.
وهاجر لوط أيضاً، وهاجر نبينا عليه الصلاة والسلام وأصحابه بإذنه قبل ذلك.
ومن الخسة بمكان أن يربط المرء عواطفه بتراب، أبى الله للمسلم إلا الرفعة، فلا يربط المسلم نفسه بالتراب، حتى ولو كان أشرف مكان على وجه الأرض وهي مكة إن مكة وهي بلد الله الحرام، وهي أحب بلاد الله إلى الله، كانت يوماً ما دار كفر، تركها النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر منها، فالمسلم لا يرتبط بأرض أبداً؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:٤١ - ٤٢]، (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) أي: أخرجوا قسراً من أرضهم وأموالهم ظلماً وعدواناً لماذا تخرجه؟ لماذا تستحل ماله؟ لماذا تشرده؟ هذا ظلم، لكنهم هاجروا في الله من بعد ما ظلموا، (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) والحسنة: هي التمكين في الأرض، (ولأجر الآخرة أكبر) إذا وافى ربه عز وجل، فقد أخذ الله عز وجل على نفسه أنه من خرج من أرضه أن تبارك وتعالى يعزه ويوطئ له الأرض، (لنبوئنهم) اللام والنون المشددة للتأكيد، ولأجر الآخرة أكبر.
ولذلك كان من تمام هجرة المسلمين إلى المدينة: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المهاجر أن يظل في مكة بعد النسك أكثر من ثلاثة أيام، فقال للصحابة: (لا يحل لرجل هاجر من مكة إلى المدينة أن يرجع فيستوطن مكة مرة أخرى)، له ثلاثة أيام بعد النسك فقط، وبعدها لا يحل له أن يبقى في مكة؛ حتى لا يرجع في ما وهبه وفعله لله عز وجل، فهذه هي هجرة الصحابة رضي الله عنهم.
ولذلك يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما مرض في حجة الوداع: (مرضت مرضاً أشرفت فيه على الموت، فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته بكيت.
قال: ما يبكيك؟ فقلت له: أخشى أن أموت بمكة)، أي: يموت في الأرض التي هاجر منها، يريد أن يكون عمله لله عز وجل؛ لأن أمامه نموذجاً محزناً وهو سعد بن خولة، فقد مات رضي الله عنه بمكة، فحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى سعد بن أبي وقاص أنه مرض مرضاً شديداً خاف أن يموت بمكة ما خاف على أمواله، ولا خاف على بنته الوحيدة آنذاك، إنما خشي أن يموت بالأرض التي هاجر منها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعل الله أن يحييك فينتفع بك قوم ويضر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة)، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ووصفه بالبائس لأنه مات بمكة.
كل هذا حتى يبقى العمل لله عز وجل، فلا يلوث بالتراب؛ لأنه ليس من عقائدنا التمسك بالأرض، فهذه الأرض التي ولدت فيها إن عجزت أن تطيع الله فيها فيجب عليك الهجرة، لا تقل: بلدي التي ولدت فيها، فما هذا من قول المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما التفت إلى مكة وقال: (والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي)؛ لم يكن يمجد الأرض كما يمجدونها الآن، وكما يستغلون هذا الحديث استغلالاً خطأً، فيزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب مكة ويحب الأرض لا والله، إنما قال: (إنك لأحب أرض الله إلى الله)، فلذلك هي أحب الأرض إلينا وإن لم نكن من أهلها؛ لأنها أحب الديار إلى الله، فكذلك هي أحب الديار إلينا.
إنما حقر النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالأرض ليخف وقع البلاء عليه، فإذا فارقت بلدك وفارقت ملاعب صباك، وفارقت أموالك التي أنفقت فيها شطر عمرك، فيقول لك: لا تحزن، ليخف البلاء عليك إذا فارقت وطنك.
الهجرة بالبدن من أرض الكفر إلى أرض الإسلام واجبة، ومن الديار التي تقام فيها شعائر أهل البدع إلى الديار التي تقام فيها السنة واجبة، وكذلك تشرع الهجرة من البلد التي غلب على أهلها كسب الحرام.
وكل هذا بحسب طاقة الإنسان، فإن كل واجب إنما يكون بحسب الطاقة.