[كثرة المخالفين وقوة شوكتهم]
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هناك كلمة حكيمة قالها العلماء، لها صلة بموضوع الاعتزال، يقول العلماء: (لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف)، الجدل الذي يحصل بين الأقران، ويتكلم أغلبهم بلا علمٍ سابق فضلاً عن عقيدة راسخة، هذا ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الأغلوطات، ونهى عن عُضل المسائل، فهذا أحد وجوه العزلة، ليس المقصود أن تكون هناك فتنة فيها سيوف ودماء تعتزل، لا.
كل مسألةٍ لم تعتقدها وليس عندك فيها علم سابق تعتقده ديناً اعتزله، لا أقول: اعتزله فقط، إنما أقول: تعلمه، لكن لا تجادل.
الحالة الثانية في الاعتزال: أن تضعف وتقل مئونتك في عرض الحق الذي عندك؛ بسبب كثرة المخالفين وقوة شوكتهم، وهذا أيضاً يدخل في حكمة الدعوة.
بلد فيه مبتدعة كثيرون، فالصوفية مثلاً يقدسون الأولياء وينذرون لهم، وأنت فرد وحدك بدأت تدعو إلى التوحيد، واستجاب الناس لك، ورأيت ثمرة غراسك، فليس من المصلحة ولا الحكمة أن تتصدى لذم القبور وأن تقف في مواجهتهم علانيةً؛ لأنه ليس هناك أية مصلحة في كسرك، بقاؤك أفضل من تدميرك.
العز بن عبد السلام وهو يتكلم في القواعد الكلية في باب المصلحة، قال: إذا وقعت حربٌ بين المسلمين وأعدائهم ولم يحصل نكاية وجب الانهزام.
أي: إذا لم يحصل منا نكاية في العدو بأن كسرناهم وغلبناهم، وغلب على ظننا أننا إذا دخلنا الحرب غلبنا وجب أن ننهزم لعدونا، ثم علل ذلك قائلاً: لأنه إذا لم يحصل نكاية كسرت شوكة المسلمين، وذهبت بيضتهم مع عدم وجود مصلحة في ضياع النفس إذ ضاع الدين.
والضرورات الخمس التي نزل الإسلام بكل نصوصه لحفظها: أولها: الدين.
ثانيها: النفس.
فنحن في حربنا مع عدونا إنما نحارب لتكون كلمة الله هي العليا، ليست حرب استرداد أرض، ولا حرب غزو النسل، أو من أجل أن نوسع الرقعة التي معنا أبداً.
ما شرع الحرب في الإسلام إلا لإعلاء كلمة الله دفعاً أو طلباً، جهاد الدفع إذا هجم عليك عدو، فتدفع عن نفسك، لتحفظ بلدك ودينك ومواطنيك.
أما جهاد الطلب: فأنت الذي تطلب العدو، تبعث رسلاً، أريد أن أدعو إلى الله عندكم، قالوا: لا.
قلنا لهم: إما أن تخلوا بيننا وبين دعوة الناس ولا تحجروا عليهم وإما قاتلناكم، والله إذا رضوا بجز الغلاصم، ولكز الأراقم والبلاء المتلاطم المتراكم، فهم وما أرادوا ندخل عليهم، وإذا رضوا وقالوا: تفضلوا ادخلوا وادعوا، فإذا دخلنا، فمن أسلم منهم صار منا، ومن لا، فعليه أن يدفع الجزية وهو صاغر، مشروع الجهاد كله إنما قام لأجل هذا.
وترك الجهاد مهلكة للذين لا يجاهدون، قال الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥] ذهب أسلم بن عمران إلى أبي أيوب الأنصاري، فسأله عن قوله تعالى:: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥] هو الجهاد؟ قال: لا.
وهناك قصة استدعت أن أبا أيوب الأنصاري يقول التفسير الصحيح لهذه الآية، فقد وقع حصار بين المسلمين والروم وبينما هم محاصرون إذ خرج صف عظيم من الروم، فخرج صف من المسلمين للالتقاء بهم، وحصل الاشتباك، فأحد المسلمين دخل في وسط المشركين وجعل يضرب هذا وذاك، وأحدث نوعاً من الاضطراب في صفوف المشركين، فجعل الناس يقولون: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة، فحينئذٍ خطبهم أبو أيوب الأنصاري وقال: أيها الناس! إنكم تضعون الآية في غير موضعها، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قلنا بيننا وبين أنفسنا سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ قد أعز الله دينه وكثر ناصروه، فلنصلح أموالنا التي تلفت، كل واحد منا له تجارة وزراعة، وبسبب الجهاد المستمر، تلفت الزراعة وتوقفت حركة التجارة، قال: فنزل قول الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥]، فكانت التهلكة: ترك الجهاد.
إذاً: مسألة المصلحة والمفسدة مهمة في تحديد معنى الاعتزال، فأنا في بلد، أدعو ووجدت لدعوتي صدى، وبدأ الناس يستجيبون، فلنكن مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكسر الأصنام يوم دخل مكة، بل كانت رايات البغايا على البيوت ترفرف وهو يمر، وكانت الأصنام في جوف الكعبة وهو يطوف، ومع ذلك سكت؛ لأنه ليس هناك مصلحة في استباحة بيضة المستضعفين، فإذا وجدنا أننا لا نستطيع إقامة الدين في وسط هؤلاء؛ دعونا من استجابوا لنا، فإن وجدنا أننا لا نستطيع ولا يوجد لنا رصيد في هذا البلد، وخشيت على نفسي التلف، إما بالأذى وإما بالركون إليهم حينئذٍ نعتزل.
وهذا ينطبق عليه قصة أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:١٦]، فاعتزلوا هؤلاء؛ لأنهم لا يقدرون على تغيير مجتمع فيه أباطرة، وهم مجموعة من الفتية الصغار الذين لا يقدرون على ذلك.