هذه الوصايا الخمس اشتملت على المثل، والأمثال إنما تضرب لتقرير الفتوى، فالأمثال تدخل في باب المبين، فمن ضرب له المثل فلم يفهمه فينبغي أن يبكي على نفسه، فالكلام إما أن يكون مجملاً وإما مبيناً، وإنما يقع الإشكال في المجمل، ولا يقع الإشكال في المبين، فمن لم يفهم المثل فحقه أن يبكي على نفسه، قال الله تبارك وتعالى:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:٤٣].
روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عمرو بن مرة رحمه الله أنه كان يقول:(إذا قرأت المثل في كتاب الله عز وجل ولم أفهمه بكيت على نفسي، وذلك أن الله يقول:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:٤٣] وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر:٢١]).
وإنما يضرب العالم المثل للذي لا يعلم؛ لذلك أنزل ربنا تبارك وتعالى على الذين يضربون له الأمثال، قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:٧٣ - ٧٤].
فالعالم هو الذي يضرب المثل؛ لأنه يدري ما هو المجمل، ويدري كيف يبين هذا المجمل، إن الذين يضربون الأمثال لرب العالمين لم يؤمنوا حق الإيمان، فهناك أوامر أنت لا تفهمها فلا تعترض وسلِّم للذي يعلم.
جاء رجل من الذين يضربون الأمثال للناس -وهم كُثر- إلى إياس بن معاوية فقال له:(لم حرم الله الخمر، ومفرداتها مباحة؟).
فإن الخمر عبارة عن ماء وعنب، أو ماء وتمر، أو ماء وشعير، فإن الماء حلال! والعنب حلال! والتمر حلال! فإذا كانت مفردات الشيء مباحة لم يحرم في المجموع؟! فقال له:(أرأيت لو ضربتك بكف من ماء أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: ولو ضربتك بكف من تبن أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: ولو ضربتك بكف من تراب أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: فإذا جمعت التبن على الماء على التراب فصار طيناً فجففته وضربتك أكنت قاتلك؟ قال: نعم، قال: فكذلك الخمر) مفرداتها لا تقتل، لكن إذا جمعتها وضربت بها قتلت، فلا يضرب المثل إلا الله عز وجل.