ومن ألطف ما يذكر في ذلك قوله تبارك وتعالى لمريم عليها السلام:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم:٢٥] لو جاء أربعون رجلاً أشداء أقوياء وقلنا لهم: هزوا النخلة لينزل الثمر، ما نزلت تمرة، فما هي القوة عند امرأة نفساء، لتهز النخلة؟ امرأة نفساء وأضعف ما تكون المرأة بعد الولادة، خارت قواها كلها، لذلك ابن عمر لما كان يطوف بالبيت ورأى رجلاً يحمل أمه العجوز على كتفيه يطوف بها وهو يقول: أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر يعني: أنا جمل أنا مطية لها، ويطوف في وسط الخلق، ثم التفت إلى ابن عمر وقال:(يـ ابن عمر! تراني وفيتها؟ قال له: لا ولا بزفرة) الزفرة هي: (الآهات) التي تقولها المرأة في الولادة، التأوه، كل الذي فعلته لا يساوي زفرة منها وهي تلدك.
فكيف قال الله لمريم وهي بتلك الحال:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}[مريم:٢٥]؟ إشارة إلى الأخذ بالسبب، ولذلك أجاد ذلك الشاعر -لله دره- حين صور هذا المشهد فقال: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغب بالعدل يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن لكل رزق سبب لو شاء أنزل عليها الرطب، لكن هو الذي جعل النخلة في يدها كفرع شجر، وهذا من ألطف ما يقال في الأخذ بالأسباب.
الإعراض عن الأسباب هدم للدين كله، قدح في الشرع الذي هو الأمر والنهي؛ لذلك كان المؤمن الذي يرجو ربه تبارك وتعالى يبدأ بطلب السبب ولا يلتفت قلبه إليه، لذلك وصف الواصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يميزهم عن الذين أتوا من بعدهم في تعاملهم مع الدنيا- فقال: كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم.
مطلوب منك أن تكون غنياً لكن لا تكن عبداً للمال، المال يكون في يدك، وقلبك فيه الافتقار إلى الله تبارك وتعالى، وليس الطغيان بذلك المال.