[الصراط المستقيم والطرق الأخرى]
قال الله عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧].
سورة الفاتحة هي أم القرآن، (أم القرآن) بمعنى أن: كل المعاني التي وردت في القرآن هي في هذه السورة وإذا قلت: القرآن من أول البقرة إلى سورة الناس كلام كثير، وسورة الفاتحة سبع آيات؛ فكيف تشتمل على كل المعاني؟! فإن أئمة العلم يجيبون ويقولون: إن أم القرآن، ذكرت المعاني مجملة، والقرآن فصل معانيها.
لكن ذكر الصراط وضحهُ الله وبينه مباشرة في هذه السورة (الفاتحة)، بينه مباشرةً في سياق السورة، نحن للتو في بداية المصحف: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦]، فربنا سبحانه وتعالى عرفك أن الناس جميعاً لا يسلكون إلا ثلاث طرق لا رابع لها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦ - ٧].
(اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) هو الطريق الأول.
(صراط الذين غضب الله عليهم) هو الطريق الثاني.
(صراط الضالين) هو الطريق الثالث.
والناس أمام الحق قسمان: عالم به، وجاهل.
والعالمون بالحق قسمان: عالمٌ عامل، وعالم جاحد، علم فعمل، أو علم فجحد: علم فعمل: هم هؤلاء {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
علم فجحد هم هؤلاء {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}.
والقسم الثاني: الجاهلون، وهم الضالون.
إذاً الطرق ثلاث.
لكن أول طريق -وهو الصراط المستقيم- ميزه الله عز وجل بميزة لم تذكر في الطريقين الآخرين، وهي ميزة الإضافة إلى نفسه تبارك وتعالى، وأنت تعلم أن المضاف إلى عظيم يكون عظيماً؛ ولذلك نقول: الكعبة بيت الله، وشرع الله لنا أن نقول: ورب البيت، فأخذ البيت عظمة بإضافته إلى الرب، وأخذت النار عظمة وشدة بإضافتها إلى الرب: (نار الله).
وأنت ترى في الدنيا: أي أرض فضاء، أحدهم يقول: أنا أريد أن أضع يدي على هذه الأرض وأبني بيتاً تقول له: إياك! لأن هذه أرض العمدة! فتأخذ الأرض قيمة ومهابة بإضافتها إلى العمدة، الذي هو رجل معه الشوكة والسلطان.
لكن لو كانت أرض إنسان صعلوك وجاء هذا ليبني تقول له: لا تبن، يقول لك: يا أخي هذه أرض فلان! فأخذت الأرض حقارة بإضافتها إلى هذا الإنسان الذي لا يملك حولاً ولا طولاً، وأخذت الأرض قيمة ومهابة وعظمة حين أضيفت إلى رجلٍ له شوكةٌ وسلطان.
فإضافة الطريق إلى الله فيه شرف، وإهمال الإضافة في الطريق الثاني والثالث فيه تحقير وإهانة هذا أولاً.
ثانياً: أن النعمة من باب الإحسان، والانتقام والغضب من باب العدل، فنسب الله عز وجل نفسه إلى الأكمل والأحسن: (إن رحمتي تغلب غضبي).
ولذلك أنت تجد هذا واضحاً في قوله تعالى على لسان الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:١٠] مع أن كل شيء في الأرض بقدر الله، فالشر مقدور له تبارك وتعالى وإن كان ليس إليه، أي: لا ينسب إليه.
وقد قال إبراهيم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:٧٨ - ٨٠]، ولم يقل: (والذي أمرضني) مع أن المرض من الله، لكنه -تأدباً مع الله- نسب المرض إلى نفسه كأنه هو الذي أمرض نفسه، فهو حين ذكر النعم والإحسان نسبه إلى الله، وحين ذكر العيب نسبه لنفسه.
والعبد الصالح (الخضر) حين أقام الجدار قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:٨٢]، ولما خرق السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩]، مع أنه قال بعد هذا {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يعني: هو الذي قال لي: اخرق السفينة، ومع ذلك قال: أنا الذي أردت أن أعيبها، فنسب الفضل والخير إلى الله عز وجل، ونسب العيب إلى نفسه.
يقول الله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧] لأن هذا داخل في باب الإحسان، والإحسان من كمال أفعال الله عز وجل، والغضب والانتقام من العدل، فنسب نفسه إلى أكمل الأمرين: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧].