للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهل العلم دنياهم في أيديهم لا في قلوبهم]

لكن أهل العلم هذه المسألة لا تساوي عندهم شيئاً، فأهل العلم المال في أيديهم، وأهل الدنيا المال في قلوبهم، لذلك تجد الواحد من أهل الدنيا ميتاًَ على المال، وليس في يده فلس، وعنده أحلام وآلام كثيرة، وليس في يده قرش واحد، بينما أهل العلم إذا بذلوا المال وراح كله لا يتحسرون عليه، كما كان أبو الدرداء وخباب بن الأرت يفعلون.

قال خباب بن الأرت وأشار إلى صندوق.

قال: (هذا فيه ثمانون ألف درهم) وذكر مصعب بن عمير، فبكى له، قال: (لما قتل مصعب فكنا إذا غطينا رأسه ظهرت قدماه، وإذا غطينا قدميه ظهر رأسه، ولم يكن معه إلا بردة صغيرة) لأن مصعب بن عمير كان من أولاد الملوك، فلما هاجر في الله ترك الدنيا وراءه، وجعل يذكر المحن التي قابلتهم وأنهم كانوا يأكلون ورق الشجر، وأنهم لم يكونوا يجدون شيئاً، فعاش حتى امتلك ثمانين ألف درهم.

قال: ما رددتُ سائلاً -ها هو الصندوق مليء، ما سألني سائل فرددته-.

فهؤلاء هم أهل العلم، لذلك العلم يزين صاحبه.

فالرجل الذي عنده مال يُغْبَط على المال ليس لأجل المال وحده، بل لأنه سلطه على هلكته في الحق، فهو يُغْبَط من أجل هذا؛ أما المال في ذاته فلا يُغْبَط الإنسان عليه، لا في الدنيا ولا في الآخرة -وهذا عند العقلاء- لأن المال رزية، فالأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بنصف يوم، أي: بخمسمائة سنة، مع أن هناك أغنياء -أغنياء ممن تأخروا عن دخول الجنة- أفضل من فقراء سبقوهم، والغني هذا عندما يدخل الجنة بعد الحساب يكون في درجة أعلى من درجة الفقير الذي سبقه بالدخول.

لكن ما الذي أخره ماله.

والحساب في يوم القيامة حساب بالذرة وبمثقال الذرة، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦]؛ فالذي يرتكب المعصية ينسى تفاصيل كثيرة من المعاصي؛ لكن كلٌ {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢] كله محصور.

قرأت أن بعض الصالحين وكان له أخٌ في الله يحبه، فمات أحدهما قبل صاحبه، فرأى الحيُّ الميتَ في المنام، فقال: ماذا فعل الله بك؟ قال: سألني عن مسألةٍ ما خَطَرَت لي على بال.

قال: وما هي؟ فقال: إنه كان يمشي في الحقول، فوجد سنبلة على الأرض فأخذها ورماها يميناً أو شمالاً، حتى لا يدوس عليها أحد، فسُئل: لم حذفتَها يميناً؟ وما أدراه فربما تكون للحقل الذي على اليسار، مع أنه فعلها بعفوية، أي: أنه ما قصد شيئاً، وما أخذ سنبلة وقطعها ورماها في الحقل الآخر، بل وجدها على الأرض.

فالعبد يُسأل عن كل شيء، ولهذا الملَكان اللذان يدونان كلام بني آدم، يسجلان عليه الضحكة والعطسة والكحة، وما هناك شيء يترك أبداً.

فإذا كانت هذه الأشياء المباحة تُدَوَّن على العبد، فكيف يمكن للعبد العاقل الذي سيلقى الله تبارك وتعالى غداً أن يمشي في الدنيا كما لو لم يأته رسول؟ فلذلك العلم يعصمك، والعلم يحرسك.