[التوكل على الله تعالى ووجوب تعظيمه]
فائدة القصة: أنك تجد فيها العبرة، والناس مطبوعون على محبة القصص، ولذلك قصَّ الله تبارك وتعالى قصص الأنبياء على المبتلين، وقصص السالفين عليهم.
أراد أن يعلمهم كيف يتوكل المرء على الله، وأن الله لا يضيعه، برغم الظنون التي يظنها بعض بني آدم بربهم تبارك وتعالى، وهي ظنون كاذبة خاطئة.
فلا تظنن بربك ظن سَوءٍ فإن الله أولى بالجميل فهذا رجل يريد أن يقترض ألف دينار يتَّجر بها، فذهب إلى رجل موسر يقرض الناس: فقال: أقرضني ألف دينار إلى أجل.
فقال له الرجل: ائتني بكفيل ائتني بشهيد.
وهذا حقه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:٢٨٢] هذا حقٌّ وحفظٌ لأموال الناس.
فطَلَبُه الكفيلَ والشهيدَ مشروعٌ لاشيء فيه.
فقال له: كفى بالله كفيلاً كفى بالله شهيداً.
لم يقل له الرجل الآخر: أنا أعلم أن الله كفيلٌ وشهيدٌ؛ لكن أريد أن أرسِّخ دَيني، لا.
إن العلاقة بين المرء وأخيه لا سيما إذا بلغ كلٌّ منهما إلى درجة عالية من هذا الاعتقاد يُجِلُّون الله تبارك وتعالى أن يوضع اسمُه: كفى بالله كفيلاً.
ولا يمنع هذا أن توثِّق دينَك وأنت تعتقد أن الله كفيل؛ لكن انظر إلى قوة هذا الإيمان.
هناك من الناس من لا يُجِلُّون الله تبارك وتعالى، ويرضَون أن يُهانَ هذا الاسم العظيم الذي قامت به السماوات والأرض، فتُقْسِمُ له بالله أنك صادقٌ فلا يُصَدِّق، تُقْسِم بالأيمان المغلظة أنك ستعيدها، ومع ذلك يقول: لا.
هناك رجل تاجر وله بنت وحيدة، وهو يجلها غاية الإجلال، وكان يكذب في تجارته: فقال له رجل: احلِفْ بالله أن البضاعة بكذا.
فقال: والله إنها بكذا.
فقال له الرجل: احلف بحياة ابنتك.
فبَكى ورَقَّ حالُه، وأبى أن يقسم بحياة ابنته؛ لكن أن يقسمَ بالله تبارك وتعالى كذباً وزوراً فإن هذا لا يضره ولا يهتز.
أليس الله تبارك وتعالى أولى بالجلالة وأحق؟! انظر إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأى عيسى ابن مريم عليه السلام رجلاً يسرق -تأمل في هذا الحديث: رأى، وهذا نبي من أولي العزم، لا يُلَبَّس عليه في الرؤيا ولا يهم فضلاً عن أن يكذب- فقال له: أتسرق؟ قال: والله ما سرقت، -لم يقل له عيسى: أنت كاذب، لأني رأيتك تسرق، بل عَظَّم الاسم العظيم- قال: آمنتُ بالله وكذَّبتُ بصري).
وهناك واقعةٌ أخرى حَدَثت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر رحمه الله: رويناها بأسانيد صحيحة؛ أن عبد الله بن رواحة شاعرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحب الأبيات العذبة المشهورة: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلينا فأنزلَنْ سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقَينا إن الأُلَى قد بغَوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبَينا - هذا الشعر كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز به ويقوله، وكان شاعراً مُجِيداً عذْب النظم رضي الله عنه، وكانت له جارية فوطئها، فرأته امرأته، فجاءت وقالت: أوطئت الجارية؟ فقال لها: لا، قالت، إني رأيتك، فقال: لا، فقالت له: إن كنت صادقاً فاقرأ شيئاً من القرآن.
لأنه جنب، والجنب لا يقرأ القرآن.
فأنشد لها أبياتاً من الشعر.
والمرأة لا تحفظ شيئاً من الكتاب؛ لكن الأبيات تلخيص لبعض الآيات في القرآن الكريم، لذلك انطلى الأمر على المرأة وصدقت، قال: شهدتُ بأن وعدَ الله حقٌّ وأن النارَ مثوى الكافرينا وأن العرشَ فوقَ الماء طافٍِ وفوقَ العرش ربُّ العالَمينا وتحمله ملائكةٌ غلاظٌ ملائكةُ الإله مسوِّمينا وكان بيدها سكين، فرمت به، وقالت: آمنتُ بالله وكذَّبتُ بصري.
وهي امرأة لا تحفظ القرآن الكريم حتى انطلى عليها الأمر، وظنت أن هذا الشعر قرآن.
وقد شهدتُ رجلاً اتُّهم في سرقة، فجعلوا يقولون له: احلف أنك ما سرقت.
فحلف، وآخر يقول: احلف بالثلاثة.
فحلف، فانبرى رجلٌ وقال: قل: والمسيح الحي.
فأبى الرجل أن يقسم.
لماذا أبى أن يقسم بالمسيح الحي؟! ما معنى هذه الكلمة؟! وما معنى أن يأبى أن يقسم برغم أن هذا القسم شرك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قالها واضحة: (مَن حلف بغير الله فقد أشرك)، وفي الرواية الأخرى: (من حلف بغير الله فقد كفر).
والذين يقولون: وحياة أبي، والنبي، وحياة العمدة، وحياة الشيخ، كل هذا شرك واضح وصريح،: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت)، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب يحلف بأبيه، فقال له: (يا ابن الخطاب! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) الحلف معناه: إجلال المحلوف به وتعظيمه، أليس ربك أولى بهذا التعظيم؟! لا تقسم إلا بالله، فإن القسم بغيره كفرٌ أو شرك؛ ولكنه كفرٌ دون كفر، لا يقال: إن الذي يحلف بغير الله لا سيما إن كان يجهل ذلك أنه كافر خارج من الملة، لا؛ لأنه لو كان كافراً خارجاً من الملة لقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر لما أقسم بأبيه: إنك كفرت، فاغتسل، وانطق بالشهادتين، وادخل الإسلام من جديد.
فلما لم يكن شيء من ذلك دل على أن الذي يقسم بغير الله وهو يجهل أن هذا القسم شركٌ أو كفرٌ، أو نسي وأقسم بغير الله أنه لا يخرج من الملة وإن كان قَصَدَ شيئاً من أفعال الكفر.