[تمكين الله للصحابة لتحقيقهم العبودية لله تعالى]
الصحابة الأوائل يجسدون الصورة الحقيقية للإسلام قلباً وقالباً، هذا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر إلى قلوب العالمين فاختار قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرسالته، ثم نظر في قلوب العالمين فاختار أصحابه له) فهؤلاء الأصحاب كانوا من اختيار الله له صلوات ربي وسلامه عليه، فأصلحهم الله تبارك وتعالى لصدق عزمهم ومسابقتهم إلى فعل الخيرات.
ولو أننا فعلنا ما أمرنا به، لصدقت فينا بشارة ربنا وكنا لها أهلاً، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:٦٦] لا شك أنه بيننا من يلبس خاتم الذهب أو دبلة الذهب، فإذا قلت لهذا اللابس: أيها الأخ المسلم! إذا سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك: هذا حرام عليك أن تلبسه، ماذا أنت صانع الآن، هل تمد يدك فتنزعه -في خفة- وتضعه في جيبك، وتقسم أنك لا تلبسه بعد ذلك، كم من المسلمين الآن يمد يده ينزعه، بينما ترى بعض المسلمين لا يفعل، فإذا سئل: لماذا؟ يقول: زوجتي تغضب!! مهلاً أيهما أشد وقعاً في قلبك غضب الرسول عليه الصلاة والسلام أم غضب الزوجة، ماذا تفعل؟ أنا لا أتصور إلا أن يجيب بـ () لكن، وبعد لكن يهدم ما قاله قبل ذلك.
وتصور لو أن النبي عليه الصلاة والسلام موجود الآن، ورآك أيها المسلم تلبس الذهب، فقال: اخلع عنك هذا، ماذا تفعل، أنا أعلم أنك ستبادر -أيها المسلم- وتقول: أخلعه فوراً، فأقول: ما الفرق بين وجوده عليه الصلاة والسلام أمامك يأمرك وبين أن يصلك كلامه؟! ما هو الفرق؟! لا فرق.
وهذه صورة مماثلة وأسوة مشرقة ساطعة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وعليه حلة حمراء، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام أعرض بوجهه عنه -الصحابة طبعاً يعلمون جيداً- إن الإعراض بالوجه لم يكن من خصاله عليه الصلاة والسلام، كان إذا رأى العبد هش وبش، حتى قال القائل: (من خالطه أحبه، ومن لم يخالطه هابه)، كنت إذا سلمت عليه تحس أنك صديقه الوحيد، تحس بألفة وتحس أنه احتواك قلبه لأنه يقبل عليك بتمام وجهه عليه الصلاة والسلام.
فالصحابة لم يتعودوا أنه يعرض عن أحد منهم، فلم يسأله لماذا أعرضت عني؟ إنما نظر إلى نفسه وأدرك أن عيني النبي عليه الصلاة والسلام ثبتت قليلاً على قميصه الأحمر، فرجع إلى البيت، فوجد أهله يسجرون التنور-الفرن- وعلى الفور خلع قميصه الأحمر ورماها في الفرن، ثم لبس حلة أخرى ورجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأقبل عليه بوجهه وقال له: ماذا فعلت؟ -أي بثوبك- قال: سجرته التنور، قال: هلا أعطيته بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل له: كيف تلبس الأحمر؟ لا.
مجرد ما يحس الصحابي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحب هذا، كان على الفور ينفيه، ولذلك سادوا.
صورة أخرى: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة عليه -لما هاجر من مكة إلى المدينة ونزل على أبي أيوب - كان الرسول عليه الصلاة والسلام نزل في دار أبي أيوب في الدور الأرضي وأبو أيوب جهد أن يقول له: اطلع يعني اصعد في الأعلى، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي) لكن أبا أيوب الأنصاري بينما هو يمشي بالليل إذ فزع، وقال لنفسه: (أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله)، ورأى أن هذا من سوء الأدب أنه يمشي على سقف الرسول تحته عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح أقسم عليه أن يصعد، وقال: (والله لا أعلو سقيفة أنت تحتها).
وكان أبو أيوب الأنصاري، يرسل إليه الطعام، ولا يأكل هو وامرأته إلا بعدما ينزل الطعام، فيتحرون مواضع أصابعه وفمه فيأكلون منها، فأرسلوا إليه ذات يوم طعاماً به ثوم، فلم يأكل منه ورجع الطعام كما هو، قال أبو أيوب: (ففزعت وصعدت إليه، وقلت: يا رسول الله! لِمَ لم تأكل؟! أحرام هو؟ قال له: لا.
ولكني أناجي من لا تناجي -أي جبريل عليه السلام- وإن الملائكة لتتأذى مما يتأذى منه بنو آدم فقال أبو أيوب: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره) أي: كيف أحب شيئاً أنت تكرهه برغم أن البصل حلال، وهكذا الصحابة كانوا على هذا المنوال.
وهذا سعد بن معاذ (لما استشار الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه في شأن غزوة فقام المهاجرون فتكلموا وأحسنوا، والرسول ساكت عليه الصلاة والسلام، ففطن إليها سعد بن معاذ -ذاك السيد الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات- فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا، وكان صلوات ربي وسلامه عليه يريد أن يعرف رأي الأنصار أصحاب الدار والإيمان، قال: يا رسول الله! صل حبل من شئت واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت ودع ما شئت، ووالله! ما أخذت أحب إلينا مما تركت).
أرأيتم الرجال؟ فقوم بهذه الصورة كيف يهزمون؟! كيف يتخلف عنهم نصر الله وهم هكذا؟!! في غزوة بدر التي خرج المسلمون إليها ضعافاً على غير أهبة قتال، قال الله تبارك وتعالى لهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:١٢]، والملائكة -فقط- لو دخلت في حرب لدعم جيش ما فهو منتصر يقيناً، لا شك في ذلك ولا ريب، لاسيما إذا كان فيهم جبريل عليه السلام، الذي ورد في بعض الآثار أنه قلب قرى قوم لوط بطرف جناحه، ولما دعا النبي ربه تبارك وتعالى في بدر كان يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إنه إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ما إن دعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى علت ثغره ابتسامة -وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، كما يقول كعب بن مالك - وقال: يا أبا بكر! أبشر هذا جبريل نزل معتجراً بعمامته راكباً فرسه، وأول ما رأى جبريل على ثناياه النقع -أي: الغبار- قال له: أبشر) يعني أبشر بالنصر، فالملائكة إذا تحيزت إلى جيش انتصر، والسبب أنه يوجد مقتضى نزول النصر وهو ما تقدم من تحقيق العبودية قدر الإمكان.
إذا صرنا مثل الصحابة نلنا ما نال الصحابة من النصر ومن العون.
إن الغربة علينا في هذه الأيام أشد من غربة الصحابة الأوائل في مكة، إي والله أتدرون لماذا؟ لأن الصحابة يوم كان يقسوا عليهم كفار قريش، كانوا يعتصمون بإيمانهم، كانوا إذا آذوهم اعتصموا بالإيمان بالله فخف عليهم البلاء، أما نحن الآن ينزل علينا البلاء وليس عندنا من الإيمان ما نلجأ إليه عند نزول البلاء، فلذا غربتنا مضاعفة.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ هذا من أجود ما قال المتنبي، ذكر بعض العلماء القدامى بسنده أنه قال: قلت للمتنبي: هل ادعيت النبوة؟ قال: ذاك شيءٌ كان في الحداثة، قال له: وما آية نبوتك؟ أي: هل معك آية تبين أنك نبي؟ فقال: نعم ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ فكأن المتنبي يقول هذا أجود ما قلته، لدرجة أنه يعرضه كما لو كان وحياً.
وفي الواقع يضطر الإنسان في زمان الغربة مع عدم وجود الإيمان الذي يعتصم به أن يداهن الذي يكره، يداهن عدوه، لأنه ليس عنده من القوة ما يستطيع أن يكون له الغلبة.