تفسير قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:٥٨] هذه الآية فيها لطائف لو قلت: (وتوكل على الحي وسبح بحمده) لا يتم المعنى الجميل إلا إذا ذكرت (الذي لا يموت)، مع أن الذي لا يموت هو الحي، الحي الذي لا يموت.
فلماذا أكدت الحياة بنفي الضد؟ أكدت الحياة بنفي الضد لأكثر من معنى: المعنى الأول: تأكيد المثبت وهو الحياة؛ حتى لا يظن أحد أن حياته يلحقها نقص فهي حياة تامة، الحي الذي لا يموت جاء تأكيد المثبت بنفي الضد، كما لو قلت: (رأيت بعيني) مع أن الرؤية لا تكون إلا بالعين، وتقول: سمعت بأذني.
والسمع والسماع لا يكون إلا بالأذن، وكما قال الله عز وجل: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:٥١] مع أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:٥١] كل هذا جاء تأكيداً.
لو أن رجلاً سخياً كريماً -وليكن هذا الرجل أباك- كلما اشتهيت شيئاً أعطاك وأمدك، لا يخطر ببالك شيء مهما كان ثمنه غالياً إلا أعطاك وزيادة، فإن أعظم مصيبة تصيبك أليست هي موت هذا الرجل؟! لأنه إذا مات هذا الرجل فستحتاج، لن تجد أحداً في كرمه، لن تجد أحداً يسد فاقتك ولا فقرك؛ فموت هذا الرجل هي أعظم كارثة تصيب هذا الإنسان، فجاء قول الله عز وجل (الذي لا يموت) لطمأنة قلبك، اطمئن، فإن الذي توكلت عليه لا يموت، بل سيرثك.
فممن تخاف؟! ولماذا تخاف من المستقبل؟! الجماعة الذين عندهم رعب دائم من المستقبل والغيب والمجهول، لماذا تخافون؟! {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:٥٨] إن الله هو الحي الذي لا يموت، فلماذا تخاف؟! ولماذا يضطرب قلبك؟! ولذلك جاء هذا مصدراً بقوله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ} [الفرقان:٥٨].
أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، التوكل يذكر في كل منحى من مناحي الحياة، لكن أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، وأكثر ما يشغل العباد الرزق، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:٧٣] يعيب الله عليهم ذلك.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، خماصاً: جائعة، ليس في حوصلتها حبة واحدة، هذا الطائر لا يدري من أين يلتقط الحب، لكنه يمر ويرى الحبة من فوق وينزل، ولذلك قال الهدهد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [النمل:٢٥]، الخبء: هذا الذي يعاينه الهدهد مخبوء في الأرض، يخرج الخبء، فهذا الطائر يغدو في الصباح لا له دكان، ولا له حرفة ولا وظيفة، فيرزقه الله عز وجل.
(بطاناً) أي: ملأى بالطعام.
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير).
وفي مسألة الرزق لأنها أكثر شيء يشغل العباد، قال الله عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:٢٢] يعني: ليس في الأرض.
فلماذا ذكر أن الرزق في السماء؟ حتى لا تخشى من طغيان طاغية، إذ لو كان في الأرض لانتهبه منك، فقال لك: رزقك ورزقه في السماء، ليس هو في متناول يد واحد منكم {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:٢٢] ثم أقسم الله عز وجل بذاته العلية: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:٢٣]، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:٥٨] جاءت المسألة في معرض التوكل، وحقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، وهذه مسألة مهمة ضل فيها جِبلٌّ كثير.