وقد وقع هذا الخوف من جماعة من الأنبياء، منهم مثلاً إبراهيم عليه السلام:{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}[هود:٦٩ - ٧٠] لما رأى أيدهم لا تصل إليه نكرهم، لماذا؟ لأنه خاف منهم.
أيُّ رجل كريم: إذا نزل عليه ضيفٌ فلم يأكل طعامه اغتم، وهذا يكون في العادة، كما لو ألقيت السلام على رجل فأبى أن يرد عليك السلام فلك الحق أن تخاف؛ لأن رد السلام معناه إعطاء الأمان، فإذا لم يرد عليك السلام فاعلم أنه قد نوى غدراً، فإذا أبى الضيف أن يأكل فكأنما خاف من طعامك، ولذلك كان من شعار الكرماء: أنهم يبادرون إلى الأكل من الطعام قبل أن يأكل الضيف، فإذا رأى الضيفُ صاحبَ الطعام أكل فإنه يطمئن ويعلم أنه ليس فيه سم وليس فيه غدر إلخ.
فلما رأى أيديهم لا تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}[هود:٧٠] ثم يستمر سياق الآيات: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}[هود:٧١ - ٧٤] تأمل هنا! {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}[هود:٧٤]، {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}[هود:٧٠] هذا سبب له خوفاً ورعباً.
فلما علم أنهم ملائكة الله، وأنهم جاءوا إلى قوم لوط قال:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ}[هود:٧١]، قال بعض المفسرين: إن معنى ضحكت: أي حاضت، وهذا صحيح من جهة اللغة في كلام العرب يقال: ضحكت الأرنب: أي حاضت، وهذا له وجهٌ، حاضت لأنها كانت امرأة آيسة من الحمل، والحيضُ علامة الحمل، وعلامة أن المرأة لا تزال صالحةً للحمل، فإذا انقطع حيضها يئست: وامرأته قائمةٌ فحاضت: وهذا الحيض يدل على أنها لا تزال صالحة للحمل أصلحها الله.
لكن أقول: إن السياق يأباها لقوله تبارك وتعالى بعد ذلك: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}[هود:٧٣]، فهو ضحك تعجب، وينبغي أن يُحمل اللفظ على معناه الذي وضع له، ولا ينقل إلا بقرينة صارفة، ولا قرينة هنا، فيحمل الضحك عل حقيقته في الآية.
قال تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}[هود:٧٤] هذا الخوف الذي تقدم بعد ذلك يقول تعالى: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا}[هود:٧٤].
اعلم أن المرء لا يجادل في الخير إلا إذا كان ذا نفسٍ طيبة، وكان عنده من الهدوء والسلام النفسي ما يحمله على تطويل النفَس في الجدال، وجرِّب لو أن رجلاً نشزت عليه امرأته وعذبته العذاب الأليم، وفضحته وهو لا يستطيع أن يتركها لعلةٍ من العلل: رضي بالذل المقيم لعلةٍِ؛ إما لأن عليه مؤخر صداق عالٍ ولا يستطيع أن يدفعه، وإما لأن أهل المرأة أقوياء فسيناله الأذى، وإما لأن له منها أولاداً فلا يستطيع أن يتركها، لأي علة من العلل أقام على الذل، فإذا جاءه جاءٍ يشتكي إليه امرأته قائلاً: يا فلان إني جئت أستشيرك في امرأتي هي كذا وكذا وكذا وكذا، وأريد أن أطلق، يقول: له: يا أخي! فلتطلق، لماذا ساكت وصابر حتى الآن؟ لماذا لا تطلق؟ طلق، لماذا أرشده إلى الطلاق؛ لأنه اكتوى بهذا الذل الذي يكتوي به من جاء يستشيره، تأمل في الآية:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}[هود:٧٤] انتهى: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا}[هود:٧٤] لم يجادل قبل ذلك وهو في الروع، لماذا؟ لأنه ليس لديه الاستعداد لمثل هذا الجدال بسبب الخوف، لكن بعد ذهاب الخوف فإنك ترى المرء يأمر بالبر والإحسان إذا كان عنده من السلام النفسي ما يجعله يتحمل هذه التوسعة.
فهذا الخوف من إبراهيم عليه السلام خوفٌ جبلي لا شيء فيه على الإطلاق.