للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بعض المغترين بتلك الحضارات الزائفة]

قال لي صاحبي يوماً -ونحن ذاهبان إلى السوق-: الأسواق هناك ضخمة جداً، فيها كل شيء، تشتري وتنتقي ثم تذهب إلى البوابات، وهناك من يحاسبك ويأخذ الثمن.

مع هذا الترتيب وهذه الضخامة لا تجد أحداً يسرق.

قلت: يا أخي! هذا المجتمع ليس أميناً، هؤلاء هم الذين سنوا طرائق القتل في العالم، وهؤلاء يقابلك الواحد منهم فيقتلك لأجل دولار واحد، هذا الذي يتزوج الحمير والبقر والغنم ما الأمانة التي لديه؟! إنما هناك مراقبة إلتكترونية في كل مكان، فأنت لما تضع شيئاً في جيبك هناك كاميرات تلفزيونية ورجل مراقب ينظر من خلال هذه الدوائر التلفزيونية يراقب اللصوص المنتشرين في كل مكان، وأيضاً على البوابات أجهزة حساسة دقيقة صنعوها أيضاً خصيصاً لأجل السرقة.

أضرب مثالاً: شخص اشترى ساعة، وبعض الأشياء في كيس بلاستيكي، فسُرق الكيس من يده، ثم أراد السارق أن يخرج بما سرق، وهو يجتاز البوابة انطلقت الصفارة، مباشرة جاء شرطي وأمسكه، قال له: أين ورقة الحساب؟ فاعتذر وقال له: الحساب هنا -وهو يتلعثم- وما إلى ذلك.

فيوقفه ويأخذ منه الكيس إلى حين التحقيق.

ثم بعد هذا يأتي أقزام مغفلون يقولون: المجتمع هذا مجتمع أمين، ليس فيه خونة وليس فيه لصوص، بدليل أن الواحد يدخل الأسواق ويشتري ما يريد.

لكن ما يذكر أبداً أن هناك دوائر تلفزيونية، وما يذكر أبداً أنهم احتاطوا ضد هؤلاء اللصوص (١٠٠%)، فمجتمعهم مجتمع كله خونة ولصوص.

قلت لكم: قد تذهب روح الإنسان ضحية دولار واحد في ذلك المجتمع.

هذا المجتمع متماسك -كما قلت لكم- ليس لأنه يحمل مقومات الحياة في ذاته؛ لكن لأننا ضعاف -مثل الذي يعيش على سمعته- وهم ملوك دعاية، فقد يصل الأمر بهم إلى أن يقنعوك بأن هذه الأسطوانة من ذهب، وأنت تقتنع برغم أنك رجل عاقل ورشيد، ومتأكد (١٠٠%) أن هذه خرسانة وليست ذهباً، بسبب هذه الدعايات التي تضلل مجتمعاتنا.

أذكركم بقانون تحريم الخمر الذي أصدرته الحكومة الأمريكية عام (١٩٣٠م) وإحصائيات وتبعات هذا القانون، حيث استعانت بكل طاقة وموهبة في المجتمع الأمريكي: بأساتذة الإعلام والاجتماع والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والسياسة ورجال الدين، كل واحد من هؤلاء تكلم من منظور علمه عن مضار الخمر، وأنفقوا أموالاً طائلة: ستين مليون دولار على الدعاية، وعشرة ملايين دولار على مكاتب إدارية لمتابعة العمل، وكتبوا تسعة آلاف مليون ورقة -تسعة مليار ورقة- كل واحد يكتب في مضار الخمر، وسنوا قانون تحريم الخمر سنة (١٩٣٠م) وفي سنة (١٩٣٣م) ألغوا قانون تحريم الخمر؛ لأنهم وجدوا أن الناس ازدادوا شراهة في الشرب، وأن هناك خسائر بالجملة: مليار دولار أموال مصادرة، وأربعة ملايين دولار غرامات، ومائتين وخمسين ألف سجين، وأربعمائة أو أربعين ألف قتيل - لا أذكر الرقم الآن- وقاوم الناس أشد المقاومة، وعجزوا في النهاية أن يحرموا الخمر فأباحوه.

نحن الذين نضلل أنفسنا؛ لأننا نرى أننا أقزام! ونتصور أن عدونا لا يهزم.

يا إخوة! انظروا إلى الصومال ما استطاع الجيش الأمريكي أن يفعل شيئاً في الصومال، والصوماليون الواحد منهم جلد على عظم، المجاعة اجتاحت بلادهم، ومع ذلك عجز الأمريكان عن فعل شيء فيه، وانظروا إلى فيتنام! أنا أريد واحداً يدلني على معركة انتصر فيها الأمريكان، الأمريكان لم يحققوا أي انتصار في العالم حتى الآن، في فيتنام انهزموا وخرجوا، وفي الصومال انهزموا وخرجوا، لا تنظروا إلى أنهم يضربون جزيرة أو يمكنون منها حاكماً فهذا ليس انتصاراً.

وما انتصروا في حرب الخليج، وما حاربوا، نحن الذين حاربنا في حرب الخليج، ثم إن العراق ما قاوم أصلاً، ولو دخل العراق المعركة بما عنده من الأسلحة؛ أظن أن الأمريكان كانوا سيصابون بخسائر فادحة، وكانت الصورة ستتغير.

ليس معنى هذا الكلام أن العراق يدخل الحرب، وتكون القضية برمتها صحيحة.

قال الله عز وجل: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:٩٦]، وجاءت (حياة) منكرة للدالة على أنهم يرضون بأي حياة مهما كانت دنيئة، هو يتمنى أن يعيش فقط؛ لأن المترف والغارق في الملذات والشهوات كيف يقاتل وكيف يفقد روحه، وما لديه أية شجاعة، ثم هذه الآلات وهذه الطائرات والصواريخ إنما يطلقها الإنسان، فلو جبن المرء ما استطاع أن ينتفع بنفسه، ولا بالسلاح الذي في يده، فهذا الجيش جيش ضعيف مهما كان يملك من الأسلحة، فكيف تخلف النصر عنا طيلة هذه المدة؟ قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:٤١]، إذاً هذه هي شروط التمكين.

قبل عشرين سنة كان ستون بالمائة من الأمة لا يصلون، الآن حوالى ثلث الأمة لا يصلون، النسبة انحسرت قليلاً، لكن ثلث الأمة لا يصلي، خذ مثلاً عينة عشوائية، هذا المسجد في هذا المكان في العزبة الجديدة، هذه العزبة يقدر عدد ساكنيها بنحو أربعمائة ألف، لو أنهم جميعاً يصلون، هل ستجد لك مكاناً في المسجد؟ لا.

ولا حتى في الشارع، حتى مع انتشار هذه الزوايا الموجودة تحت البيوت، لو أنهم يصلون على الأقل المغرب والعشاء، لا نقول الظهر والعصر؛ لأن كل واحد يكون في عمله، فيصلي في المسجد المجاور للعمل، لكن في الفجر وفي المغرب والعشاء أن يكون الجميع قد أنهى العمل وجلس في البيت، لو أنهم جميعاً إذا سمعوا صوت المؤذن بادروا إلى المساجد؛ ما وجدنا مكاناً لأحد، بالرغم من أن هذا المسجد يعتبر من أكبر المساجد في البلد، ومع ذلك يمتلئ في صلاة العشاء والمغرب، اذهب إلى مساجد أخرى تجد صفاً أو صفين، وتجد نصف صف في حي مكتظ بالسكان.

فإذا كانت الأمة ضيعت أهم ركن عملي في الإسلام بعد الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهؤلاء ضيعوا الصلاة، وضيعوا الزكاة، ويمرون بالفواحش ولا ينكرونها ولا يجرءون؛ لأن الإنسان قد ينكر المنكر فيدفع ثمن هذا الإنكار، أنا لا أقول: لابد من الإنكار باليد، أو باللسان فقط، بل هناك إنكار بالقلب إذا لم تستطع بيدك أو بلسانك، فهل تمعر وجهك عندما ترى معصية؟ هذا إنكار.

أضرب مثالاً على ذلك: المدخن هل إذا رأيته يدخن كرهته واشمأززت منه؟ الدخان حرام، وهو مبارزة لله بالمعصية، والمصيبة العظمى انتشار الدخان والمجاهرة به.

فلابد من الإنكار ولو بالقلب، أم أن المسألة طبيعية جداً؟