[الهدى والضلال بضاعتان في سوق الحياة]
اعلم أن الهدى هو خير ما احتاجه الرجال، وشر البضاعة الضلال، ولمحبة الناس للأشياء المحسوسة جعل الله عز وجل المعاني محسوسة، فقال تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:١٦]، فذكر لفظ الشراء في المسائل المعنوية لمحبة العباد للبيع والشراء، وتكرر هذا المعنى في كتاب الله عز وجل كثيراً: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [البقرة:١٧٥]، {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:١٦].
إذاً: الهدى والضلال بضاعتان في سوق الحياة، فأنت إذا دخلت السوق انظر كيف تختار.
واعلم أن الطريق الحق من (ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
إذاً: دراسة مذهب القرن الأول صار فرضاً وهو العلامة الوحيدة للباب الوحيد: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
وهذا مترجم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وإن كان لفظ: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي) أوسع في الدلالة من حديث الخلفاء الراشدين، لأن حديث (أنا وأصحابي) يشمل التأسي بالصحابة جميعاً.
إذاً: معرفة مذهب القرن الأول صار ضرورة فلننظر: كيف كان اعتقادهم؟ كيف كان سلوكهم؟ كيف كان فقههم؟ هذه مسائل ضرورية إذا كنا نريد النجاة.
يا ليت الأبواب مفتحة بغير دعاة يدعون إليها، لهان الخطب إذَاً؛ لكن في بعض فترات الحياة قد يكون داعي البدعة أشد لساناً وأبسط وأقوى حجة من داعي الحق.
يعني: من عدة سنوات كان صوت العلمانيين قوياً جداً، أما اليوم فرءوس العلمانيين يتساقطون الآن ويموتون، أما في سنة (١٩٦٠م) وقبلها وبعدها، كان هذا العصر الذهبي لدعاة العلمانية، قمة الذروة بالنسبة لهم، أما الآن فبدءوا يتساقطون.
لكن لماذا برز هؤلاء وظهروا؟ لضعف لسان أهل الحق في ذلك الزمان، مع قوة لسان أهل البدع.
وأعظم بلية تبتلى بها الجماهير، أنه لا يوجد علماء يدلونهم على الطريق، كم من الذين ماتوا وهم يعتقدون أن العلمانية هي الدين الحق، ماتوا قبل أن يصل إليهم -أو يصلوا إلى- دعاة الهدى.
فمحنة عدم وجود العالِم تعم الجماهير، إذ قد يموت الرجل ضالاً لا يعرف الهدى؛ لأنه لم ينتصب له رجل يقول: الطريق من هنا.
إذاً: حاجة الجماهير إلى العالِم أعظم من حاجتهم إلى الطبيب، وأعظم من حاجتهم إلى لقمة الخبز.
هذه الأبواب الثلاثة والسبعون، مرةًَ تجد على باب البدعة شخصاً ضعيفاً لا يستطيع أن يضبط الحجة، ومرةً تجده رجلاً قوياً، وباب الحق عليه رجل ضعيف، لا يضبط الحجة.
فلو أن هذه الأبواب فارغة ليس عليها أحد لهان الخطب، فإذا تزامن أن يكون داعي البدعة في غاية القوة وحجتُه قوية، وقابَلَه ضعف علماء السنة فالخطب حينئذ يكون أشد.
ومن السمت الذي يخطف به المبتدعةُ القلوبَ -كما قلتُ- التجافي عن دار الغرور، والسمت يسبق الكلام -كما قلنا قبل ذلك- سمت الإنسان وشكله يسبق لسانه، أحياناً ترى إنساناً فتعجبك هيئته، وترى عليه أمارات الصلاح ولما تسمع منه شيئاً، وقد يكون كما ظننت وقد يكون على خلاف ما ظنننت.
وأنتم تعرفون طائفة السيخ الذين هم أذل الخلق، عباد العجول، الذين أخذوا المسجد وحولوه إلى معبد، ونحن ألف مليون لم تتقدم دولة باحتجاج رسمي إلى الهند: كيف حولتم المسجد إلى معبد؟ هؤلاء السيخ من علاماتهم طول اللحية وإعفائها، تلقى الواحد منهم لحيته ثلاث أو أربع قبضات، ويلبسون عمامةً، فلو رأيتَه وليس مكتوباً تحت صورته شيئاً ستقول: سبحان الله! كأنه واحد من الصحابة، شكله جميل وفيه رجولة.
وهذا الرجل السيخي -إذا جازت النسبة- لو جاء ووقف أمام المسجد ورأيت عليه عمامة، ولفت نظرك لحية عظيمة، فلو وقف وجعل يفرك في يده، فإنك تظنه يسبح مثلاً، فصورته تخطف القلب، فتأتي فتقول -فأنت تريد أن تتعرف على هذا الإنسان-: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العالِم من أين؟ لكن ما الذي جعلك تقبل عليه؟ شكله وسمته، قبل أن ينطق لسانه وتصور لو أنك ذهبت معه ووجدتما شخصاً يقود عجلاً فأول ما يرى العجل يخر راكعاً! ماذا يكون رد فعلك؟! صدمة لا توصف.
ولذلك التربية تكون قبل التعليم؛ من أجل هذا نحن نوصي أنفسنا وإخواننا في الله تبارك وتعالى المتصدرين لتعليم الجماهير أن لا يتدنى ولا يتبسط مع الجماهير، والشيء المباح الذي قد يفعله في خلوته لا يفعله في جلوته، لماذا؟ لأن السمت والشكل يُعلِّم.
قال بعض العلماء لابنه: (يا بني! اذهب إلى جعفر الصادق، وتعلم من سمته وشكله كما تتعلم من علمه)، فكان الواحد إذا ذهب يتعلم من شيخ ينظر إليه كيف يضحك! كيف يبكي! إذا نزل عليه خبر كالصاعقة ماذا يقول! إذا جاءه خبر مفرح، ماذا يقول! ينظر إلى علامات وجهه، ويتعلم منه.
فالسمت سباق، وهذا السمت هو الذي غر الخليفة المنصور في رجل من رءوس البدعة، جمع بين الاعتزال والتجهم، أعوذ بالله من الضلال البعيد، وكان اسمه عمرو بن عبيد، فكان المنصور يخضع لفرط زهده وتجافيه عن الدنيا، فكان إذا رآه يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد فقد كان زاهداً في أموال السلاطين، وزاهداً في القرب من السلاطين، والمنصور يبعث إليه ولا يأتي، يهرب منه، فأعجبه هذا الزهد والسمت، فقد يكون على باب البدعة من هذه الأبواب عمرو بن عبيد، أو خليفة عمرو بن عبيد، رجل قوي اللسان، عنده حسن عرض للشبهات، والشبهة السقيمة في زمان الجهل تكون عملاقة، مثل الإنسان الغير كفء، في غياب الأكابر يصير عملاقاً، فكذلك الشبهة التافهة في زمان الجهل تكون دليلاً.