[عظيم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وحالنا اليوم]
قال عمر: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا) وغسان موالون لملوك الروم، وكانوا في الشام، وكان المسلمون قد أمنوا كل الجهات إلا من جهة ملك غسان فقد كان يهدد أنه سوف يغزوهم في المدينة، فكان الصحابة على أتم استعداد لملاقاة هذا الرجل إذا تحرك إلى المدينة.
واستخدم هذه الاستعارة الجميلة: (تنعل الخيل لغزونا) الرجل إذا انتعل فهذا معناه أنه سيمشي وسيمضي، و (تنعل الخيل): أي تهيئ الخيل لتغزونا.
ففي يوم من الأيام بعد صلاة العشاء، وفي نوبة هذا الأنصاري جاء فضرب الباب ضرباً شديداً، في بعض الروايات قال عمر: (فخرجت إليه عرياناً -طبعاً ليس عرياناً بمعنى غير متستر، وإنما لم يكن متهيئاً بكامل زيه، وهو دال عن السرعة والمبادرة- فقلت: مالك؟ قال: حدث اليوم أمر عظيم.
قال: أجاءت غسان -لأن هذا هو الأمر العظيم الذي كانوا يتوقعونه، وما خطر ببال عمر أبداً هذا الذي سيسمعه من الأنصاري-؟.
قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم!).
ما أعظم حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إن تَكَدُّرَ خاطره صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من أن تستولي غسان على المدينة، ما كانوا يصبرون على أن يلحقه أذى أياً كان!! أمّا ما يجري الآن في زماننا في حق النبي عليه الصلاة والسلام فما كان الصحابة يسمحون بعشر عشر معشاره؛ لأن محبتهم كانت صادقة، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام يسب في ديار المسلمين ويلمز ويغمز، وقد صرح بعضهم به تصريحاً، لما رسم أحدهم في رسومه الساخرة (الكاريكاتير) ديكاً وتسع دجاجات، وكتب فوق -هذا كان سنة خمسة وستين في جريدة الأهرام - هذا الرسم "محمد جمعة وزوجاته التسعة" من الذي تزوج تسعاً في المسلمين ولا يحل إلا أربعة لسائرهم؟ من الذي تزوج تسعاً فقط؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، يخرج الرسم بهذا السفور الفاضح، ومع ذلك يظل هذا الرجل في مكانه ولا يحاسب، وكل هذا بدعوى حرية الرأي وحرية الكلمة، وأننا لا نحجر على كلام أحد كيف لا نحجر؟ إذا كان هناك إنسان يستحق أن يحجر عليه فليحجر عليه، فالألفاظ قوالب المعاني.
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يوماً يقول: (والله! ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية.
فجلده الحد، وقال: إن هذا تعريض بالزنى) أي: لو أن الأب أو الأم كانا طاهرين، لِمَ نفيت التهمة عنهما؟ أكيد هناك أصل لهذه التهمة، فجلده حد القاذف؛ لأن هذا فيه إيماء وفيه معنى القذف بالزنى.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يعتدى عليه، ويعتدى على سنته من قبل الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً في هذا العلم، كل يوم لما أطالع مثلاً بعض الصحف لا يكاد يوم يمر إلا وفيه هجوم على السنة، أو على القرآن أو على النبي عليه الصلاة والسلام، أو على الله تبارك وتعالى.
فأغرى هذا أعداءنا وجرأهم، فرسموا النبي عليه الصلاة والسلام على صورة خنزير، وفي الضربة الأخيرة للعراق في شهر رمضان كانت الصواريخ التي تضرب بها بغداد مكتوب عليها: (هدية رمضان للمسلمين) فلما استنكر بعض المسلمين هذا رد الرئيس الأمريكي وقال: أحد الجنود كتبه ماذا نصنع به؟! متأسفين وانتهى الأمر على هذا، وما أرى حالنا اليوم إلا كما يقول الشاعر: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا الورع البارد هذا أغرى أعداءنا أن يعتدوا على النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك الاعتداء الصارخ لم يكن هناك أي رد فعل رسمي لأي بلد من بلاد المسلمين.
يا أخي: اسحب السفير، اعمل احتجاجاً رسمياً، اعمل مؤتمراً صحفياً، اعترض، قل: كيف تسبون نبينا؟ كيف ترسمونه على هيئة خنزير؟ هذا أقل ما يجب، لكن لم يكن هناك أي رد فعل رسمي على الإطلاق، كأن هذا النبي لا يدين بدينه أحد! الرسول عليه الصلاة والسلام لما طلق نساءه، يقول هذا الصحابي لما سأله عمر: (أجاءت غسان؟ يقول: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم) مجرد أن يطلق نساءه هذا أعظم من أن تستولي غسان على المدينة.
فقال عمر: (قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون) لماذا؟ لأن له مقدمات: المرأة التي تعترض على زوجها وتهجره، وتنشز عليه ماذا يُتصور أن يكون رد فعله تجاه ذلك التصرف الخاطئ؟! الرجل الذي تتدفق دماء الرجولة في عروقه لا يطيق أن تفعل به المرأة ذلك، أنها تهجره، وكلما يأمرها تعصيه، ولا تسمع له كلاماً، وتحط من كلامه، وأي رجل يأبى هذا.
فهذه مقدمات كان عمر يرى أنها قد تؤدي إلى ذلك، ولذلك أول ما سمع الخبر قال: (قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون)، فنزل وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، والنبي عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة دخل المشربة، ما كلم أحداً -المشربة: غرفة ملحقة بالمسجد- ولم يجرؤ عمر بن الخطاب أن يراجعه أو أن يكلمه؛ لأنه كان غاضباً، فجلس مع قوم عند المنبر، قال عمر: (يبكي بعضهم).
أنا على يقين -بما أعلمه من سير الصحابة- لو أن واحداً من هؤلاء الذين يبكون عند المنبر طلقت ابنته لما بكى فلماذا يبكي إذاً؟ يبكي لتكدر خاطره عليه الصلاة والسلام، مجرد أنه متكدر الخاطر -متعكر- هذا يقلقه؛ لأنهم كان يحبونه غاية الحب.
هذا الموقف موقف مهيج ومثير، ناس يبكون حزناً قال عمر: (فغلبني ما أجد) يعني: ما كان في صدره من الهم والغم غلبه فلم يصبر على هذه الجلسة، وذهب إلى هذا الغلام وقال له: استأذن لـ عمر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.