للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل بالأسباب والتسليم للقدر]

يوم يقول سراقة بن مالك صاحب الفكر المستقيم والعقيدة المستقيمة: (لا أجدني أشد حرصاً مني على العمل مثل الآن) فعلم هذا الموفق: أن العبد منه السبب، والسبب يكون على وفْق ما أراد الله عز وجل، فلا تعارض بين السبب والقدر؛ لأن السبب جزءٌ من القدر.

لا تقل كما قال البعض: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:١٥٦] أبداً، لا تقل: لولا أنه خرج من بيته ما مات، كان لا بد أن يخرج ليموت؛ لأن خروجه جزءٌ من القدر، وليس القدر منفصلاً عن السبب: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:٥ - ٦].

هكذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بعد كلام سراقة: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)) يوجد ثَمَّ إعطاء من العبد، {أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:٥ - ٦].

إذاً: أعطى، واتقى، وصدق، كل هذا كسبُ العبد وشغلُه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:٧]: هذا هو القَدَر.

إذاً: لا يمكن أن يُيَسر لليُسرى إلا إذا أعطى، واتقى، وصدق، فالذين يقولون: إنه كتب علينا النار وأدخلنا النار، وما لنا حيلة، أين هذا؟! هذا مضاد لكلام الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:٨ - ١٢].

إذاً: بيَّن لنا ربنا عز وجل أنه يوجد سبب ممدود منه، وهذا السبب يكون على وَفْق النهاية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قيد شبرٍ- عَمِل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبرٍ- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة).

فهذا أيضاً حال ومآل؛ لكنه معكوس لتتم حكمة الله عز وجل، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:١٩]، يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، وقَبْل أن يموت بشبرٍ يعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، فيَتُوْه العباد، ويسألون: كيف ذلك؟ وأين ذهب هذا العمل في الزمن الطويل؟ أما نفعه هذا الزمن الطويل، ودخل النار في شبر.

هنا يُمْتَحَن الذين آمنوا، والذين رق دينهم هم الذين يعترضون على ربهم.

ورجلٌ يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراعٍ أو قال: قيد شبر، -يعني: مسافة بسيطة وزمناً يسيراً- عمل بعمل أهل الجنة ودخل الجنة، فأين ذهب عنه السوء؟ فيقال له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، رجلٌ صلى صلاةً طويلة، قرأ فيها بالقرآن كله، وقبل أن يسلم أخرج ريحاً، فما حكم صلاته؟ باطلة! ورجلٌ صام في يومٍ طويلٍ شديد الحر، حتى إذا كان قبل المغرب أفطر، فما حال صيامه؟ باطل! وأين شقاء اليوم كله؟ ذهب هذا هو توضيح الحديث.

وهناك زيادةٌ وَرَدَت في صحيح مسلم تكشف هذا اللَّبس، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس).

إذاً: نفهم أن العمل الحسن لم يكن مخلصاً فيه، وكان يرائي الناسَ: (فيما يظهر للناس)، ولذلك خُتِم له بالشقاء؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:٣٠] أي: أحسن عملاً بالإخلاص ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا هو الإحسان في العمل، فإذا لم يخلص يُخْتَم له بذلك، وإن كان عند الناس محسناً.

وكذلك الذي عمل بعمل أهل النار مثل الرجل الذي قتل مائة نفسٍ وخرج إلى الأرض التي أرشده الراهب إليها ليتوب، فما خرج غير بعيدٍ حتى قُبِض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى الأرضَ من تحته، فأوحى لهذه أن تقرَّبي، وهذه أن تباعدي، فقاسوا المسافةَ ووجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبرٍ واحد.

ماذا فعل؟ قتل مائة نفسٍ، وتوجه إلى أرضِ التوبة، هذا كل الذي فعل، هذا الشبر.