أصل الغربة هو التفرد، ألا يكون لك شكلٌ ولا نظير، هذا هو معنى الغريب، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله يتوجع من هذه الغربة التي شعر بها في بلده وبين أهله لما كان يدعو إلى السنة، وقام له أصحاب التعصب، فأنشد متوجعاً: وما غربة الإنسان إلا في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بدٍ وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي هذا هو معنى الغربة، ليس الغريب هو الذي يترك بلده ويسكن في بلدٍ أخرى، فإن الغريب قد يأنس في دار الغربة، ويتخذ له أصحاباً وأخداناً أفضل من الذين تركهم، وهذه القاهرة أغلب الذين يعيشون فيها ليسوا من أهلها، فكيف استقر بهم المقام حتى أنهم نسوا مسقط رأسهم؟! إن الغريب قد يأنس في دار الغربة، لذلك لما نصح النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر أن يتجافى عن دار الغرور، قال له:(يا ابن عمر! كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) و (أو) ليست تخييراً أن يختار الغربة وأن يكون عابر سبيل لا، إنما ترقى النبي صلى الله عليه وسلم به، (أو) هنا: بمعنى بل، يعني كن في الدنيا كأنك غريب بل عابر سبيل، كقول الله عز وجل:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}[النحل:٧٧]، يعني: بل هو أقرب من لمح البصر، وكقول الله عز وجل:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}[الصافات:١٤٧] يعني: بل يزيدون، لأن الغريب قد يأنس في دار الغربة بأن يجد له شبيهاً أو نظيراً.
والمقصود من الموعظة أن يتجافى ويشعر بالوحشة الدائمة وهو في الدنيا، فالغريب قد يأنس، فقال له: لا، لا تكن غريباً، بعدما قال له:{كن في الدنيا كأنك غريب} ثم كأنما استدرك فقال له: لا تكن غريباً؛ لأن الغريب قد يأنس، بل عابر سبيل؛ فإن عابر السبيل مستوحشٌ دائماً، لا يكاد يضرب فسطاطه فينام حتى ينقصه ويمضي، ومثل الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، فلو أن صاحب الشقة المفروشة تعطل عليه (صنبور) الماء فإنه لا يصلحه فإذا قلت له: لماذا لا تصلح (الصنبور)؟ يقول لك: أصلاً هي مفروشة، وأنا سأتركها وأمضي.
لا يهيئ فيها شيئاً، لكن إذا رزقه الله عز وجل، واستطاع أن يشتري شقة تمليك فإنه يتصرف تصرف الذين لا يموتون، كل شيء يخطر بباله من أسباب الرفاهية والنعيم يأتي به الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، المفروض أن العبد العاقل يكون مستوحشاً دائماً وهو يمضي إلى الله؛ لذلك ترقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام: لا تكن غريباً بل كن عابر سبيل، فليست الغربة أن تترك بلدك وتترك أهلك وتدخل مع آخرين، ليست هذه هي الغربة، وهذا هو معنى كلام الخطابي رحمه الله: وما غربة الإنسان في شقة النوى أي: في البعد.