كان النبي عليه الصلاة والسلام من عادته أول ما يدخل البيت أن يتفقد بيته ويتفقد مواضع الخير في بيته، كما أمر عائشة رضي الله عنها أن توزع الأضحية.
فـ عائشة رضي الله عنها من الخير الذي عندها وهي توزع نسيت أن تبقي لنفسها شيئاً من الأضحية، لتأكله مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذكَّرَتها الجارية، فبقي من الضأن أو الماعز الرجلان الأماميتان -اليدان- فقط، فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل البيت قال:(ما فعلت في الأضحية؟) يسأل ويتفقد مواضع الخير في بيته، ولذلك أول ما يدخل الإنسان لا يسأل امرأته: أجهزتِ الغداء؟ بل يسأل: أصليتِ الظهر؟ أصيلتِ العصر؟ والأولاد: أصلوا؟ فأول ما دخل عليه الصلاة والسلام قال:(ما فعلت -أي: في الأضحية-، فقالت: يا رسول الله! ذهبت كلُّها إلا ذراعُها، فقال عليه الصلاة والسلام -قول الرجل الذي ينظر إلى الآخرة-: بل بقيت كلُّها إلا ذراعُها) أي: بقيت عند الله تبارك وتعالى؛ لأنها خرجت صدقة، فلما دخل عليه الصلاة والسلام وجد الإناء، فقال:(من أين؟ قالت: أهداه لك فلان الأنصاري).
وكان عليه الصلاة والسلام من عادته أنه إذا جاءته صدقة أرسلها كلها إلى أهل الصفة ولم يرْزَأهم شيئاً، فإذا جاءته هدية أرسل إليهم يشركهم فيها، وكان هذا من رأفته عليه الصلاة والسلام بأصحابه، فأهل الصفة تركوا ديارهم واغتربوا في سبيل الله، فكان يأكل معهم، إذا جاءت هدية أشركهم فيها، وإذا جاءت صدقة ذهب بها إليهم كلها، وما يرْزَأهم شيئاً؛ لأن الصدقة محرمة عليه -عليه الصلاة والسلام-.
وأيضاً من الأمثلة على لطفه عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يحب أن يُشْرِك الأمة معه في ذلك، ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في غزوة الأحزاب، في حفر الخندق، قال جابر رضي الله عنه:(مرت بنا ثلاثة أيام ونحن نحفر الخندق، ما ذقنا فيها ذواقاً، قال: فاعترضتنا كُدْية عظيمة لا تعمل فيها المعاول) أي: صخرة ضخمة، يكسرون فيها، ولم تنكسر، قال:(فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوجدته قد ربط الحجر على بطنه من الجوع) كان النبي قدوة، أنا عندما أرى الرسول عليه الصلاة والسلام أو أرى قائدي يربط الحجر على بطنه من الجوع فأنى أنسى الجوع؛ لكن إذا كنت أراه يأكل ويتغدى ويرمي اللحم خارجاً، وأنا رجل أعاني شظف العيش، وبعد ذلك يقوم خطيباً ويقول لي: التقشف وشد الحزام، هذا الرجل كاذب، قد أكون جباناً لا أستطيع أن أقول له: أنت كاذب؛ لكن أنا في قرارة قلبي أعلم أنه كاذب، فتقل القدوة به، ومهما يأمر ويتكلم فأنا لن أسمع، لأنه كاذب يعيش في نعيم وأنا أعاني الضنك؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان أول جائع فيهم.
فوجده جابر رابطاً على بطنه الحجر من الجوع، فقال:(يا رسول الله! كُدْية عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام وأعرفُ الجوع في وجهه، فأمسك المعول، وقال: باسم الله، وضربها، فصارت كثيباً أهيل -صارت رملاً- فقلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب البيت، فأذن له، فذهب إلى امرأته، وقال لها: لقد رأيتُ شيئاً آنفاً ما لي عليه صبر، رأيت الجوع بوجه النبي صلى الله عليه وسلم، فما عندك من الطعام؟) أرجو أن تستحضر أن جابراً أيضاً جائع، ظل ثلاثة أيام ما عنده طعام، فكان من المتصور أن ينسى جوع غيره لجوع نفسه، لكن المحب ينسى جوع نفسه لجوع من يحب، لذلك قال: رأيت شيئاً ما لي عليه صبر، ماذا عندك؟ (قالت: عناق -شاة أو ماعز صغيرة- وصاع من شعير، فقال: اذبحي العناق واعجني، فقالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) تعني: لا تذهب وتحضرهم كلهم؛ لأنه ليس ثَمَّ طعام عندي.
فأخذ جابر الوصية وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهمس في أذنه: عندنا عناق، وصاع من شعير، أي: تعال وبعض أصحابك، قال جابر: فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا أهل الخندق! قد صنع لكم جابر طعاماً، قال جابر: فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله؛ رجل دعا أناساًَ إلى الطعام وليس عندهم طعام، فلما رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: اذهب فقل لهم: أن يضعوا اللحم على النار، ولا يخبزوا حتى أجيء، وجاء بأهل الخندق جميعاً وانطلق إلى البيت، فأول ما سمعت امرأة جابر وقع الأقدام ورأت هذا العدد الكبير، قالت له: بِكَ وبِكَ! تلومه وتعنفه، ماذا يأكلون؟! أنا قلت لك، ونبهت عليك، قال: قد قلتُ الذي قلتِ لي، قالت: أوَعَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتُه لك؟ قال: نعم، قالت: فرسول الله أعلم، قال: فَسَرَّتْ عني، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال: أين البُرْمة -التي فيها اللحم-؟ فجِيْء بها، فبصق فيها وبارك.
أين العجين؟ فِجيْء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه، وكانوا ألف رجل، وإن البرمة لتغط باللحم كما هو، وإن العجين ليُخْبَز كما هو.
فانظر من رأفته عليه الصلاة والسلام ما استطاع أن يستأثر بالأكل وهو عارف أن الذين يحفرون الخندق جوعى، حتى صاح فيهم:(لقد صنع لكم جابر طعاماً) مهما كان الشيء قليلاً، لكن المواساة به جيدة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:(خير الصدقة جهد المقل)، إذا كنت محتاجاً لهذا الدينار الذي تتصدق به، فهذا أفضل الصدقة، لأنك وقيت شح نفسك، رأيت غيرك أولى منك، فهذا أفضل الصدقة، جهد المقل.