للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مشابهة فتنة القبر لفتنة الدجال في خطرها على العبد]

فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال) فلما كان الصحابة عندهم علم بفتنة الدجال وخطورتها، وعرفوا أن فتنة القبر كذلك أجهشوا بالبكاء.

آخر فتنة يتعرض المرء لها هي فتنةُ القبر؛ لأن الملكين يشككانه في جوابه حين يسألانه: (من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ فيجيب: ربي الله، فينهرانه بشدة ويعيدان عليه

السؤال

من ربك؟) وأصواتهما كالرعد القاصف، وعيونهما كالبرق الخاطف، فيصرخان فيه: من ربك؟ فيظن أنه قد أخطأ، وإلا لماذا يراجعانه، فيزل هذه المرة ويجيب بإجابة غير الأولى، لذلك بكى الصحابة، فأنزل الله عز وجل قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:٢٧] عن الحجة وعن الجواب الصحيح، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧]، لا يستطيع رجلٌ أن يثبت على هذا الجواب إلا إذا كان في الدنيا حين يقول: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فإنه يعتقدها في الدنيا ويعمل بها، وتكون منهج حياة له، فقبل أن يقدم على عمل ما يسأل أهل العلم: أهذا أحله الله لي؟ أهذا أجازه الله لي؟ أهذا شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لي؟ حياته كلها على مقتضى لا إله إلا الله، فمثل هذا يثبته الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:٢٧] مع الفتن الموجودة، ومع الضغط المرهق الذي يعانيه، إلا أنه لم يتخل عن الكلمة ولم يتخل عن الالتزام، فبعض الناس إذا شيك بشوكة أول شيء يفرط فيه التزامه، بينما لا يتردد في إتلاف نفسه من أجل الدفاع عن مكاسبه الدنيوية.

فالإنسان يبذل في الدنيا جهداً كبيراً في تحصيل المال؛ فيتغرب في البلاد، ويشتغل عند الناس في أعمال وضيعة لا يرضى أن يعملها في بلده، مع أن الغربة اسمها يدل عليها، ومع ذلك يتحمل بعده عن أولاده وعن أهله وعن أبيه وعن أمه في سبيل المال، فلماذا يتنازل عن دينه لمجرد أنه اعتقل لمدة يومين أو تعرض لنوع من الأذى؟! فينبغي على المرء أن يكون عالماً بـ (لا إله إلا الله) في الدنيا، ملتزماً بها؛ ليثبته الله عز وجل في الآخرة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:٢٧] فيثبت على هذا في الدنيا، ويصبر على اللأواء، وقد يخرج من بلده ويترك ماله وراءه كما فعل الصحابة، وما ندموا أبداً على هذا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للصحابة الذين هاجروا أن يقيموا في مكة أكثر من ثلاثة أيام لماذا؟ لأنهم لما خرجوا من مكة خرجوا منها لله وهجرة في سبيله، فلا يجوز لهم أن يرجعوا في هذا العقد مرةً أخرى، فإذا جاء أحدهم إلى مكة لحج أو عمرة لا يمكث بعد انقضاء النسك أكثر من ثلاثة أيام؛ حتى لا يتعكر احتسابه وبذله، قد يؤدي بك التمسك بـ (لا إله إلا الله) إلى أن تضحي بعنقك، فإذا ثبتَّ على هذا المر في الدنيا ثبتك الله عز وجل في الآخرة، والجزاء من جنس العمل.

وللحديث بقية إن شاء الله.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.