للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكم القيام لمن دخل مجلساً

السؤال

ما حكم القيام لمن دخل مجلساً؟

الجواب

لا يشرع قيام الجالسين للداخل إلا إذا قصد به الاستقبال، أما أن يقوم مجرد قيام فأكثر العلماء على تحريم ذلك وللإمام النووي رحمه الله رسالة في جواز القيام لأهل الفضل، وقد رد عليه كثير من العلماء فيها، فهو يرى جواز القيام لأهل الفضل من باب إنزال الناس منازلهم، لكن نحن عندنا أحاديث صريحة في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن القيام، منها: حديث أنس في الصحيح قال: (ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك).

فلذلك نوصي إخواننا في الله أن يظلوا على حالهم، أي: لا يقوموا إلا إذا قصدوا الاستقبال، أما أن يكون قياماً مجرداً فهذا مما يُنهى عنه.

وقد جاء في تاريخ بغداد للخطيب في ترجمة الإمام الثقة علي بن الجعد: قال علي بن الجعد: دعا أمير المؤمنين المأمون تجار الذهب وناظرهم؛ لأنه كان يريد أن يشتري -يريد أن يرى الأرخص سعراً- قال: فخرج المأمون لقضاء حاجته ثم رجع، فقاموا جميعاً ولم أقم، فلما رأى المأمون ذلك غضب، وقال: أيها الشيخ! ما حملك على ألا تقوم كما قام أصحابك؟ قلت: أجللت أمير المؤمنين لحديث مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعنا من القيام.

قال: وما ذاك؟ فقلت: حدثني المبارك بن فضالة، عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يتمثل الرجال له قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار)، قال: فأبطأ المأمون ساعة، ثم قال: ما ينبغي أن نشتري إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى مني في ذلك اليوم بثلاثين ألف دينار.

يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣].

والبركة دائماً في تنفيذ كلام الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهناك شبهة يذكرها البعض في هذا البحث، وهي في قوله عليه الصلاة والسلام -كما في حديث معاوية بن أبي سفيان عند أبي داود وغيره-: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار) قالوا: قوله: (من سره) والسرور أمر قلبي، فكيف يتأتى تنفيذ هذا الحديث وهو متعلق بأمر قلبي؟ والجواب: أن الحكم إذا كان متعلقاً بأمر قلبي فلا بد أن توجد قرينة في الخارج حتى يعلق بها الحكم، والقرينة هنا هي: غضب الرجل إذا لم يقم له الناس، فإذا كان السرور أمراً قلبياً لا نستطيع معرفته، فنحن نعلق الحكم بغضب الرجل، وهذه قرينة ظاهرة يمكن أن يعلق الحكم بها.

إذاً: لو أن الرجل غضب إذا لم يُقم له؛ فهذا ممن ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار)، وتكون القرينة الخارجية التي عُلق بها الحكم هي الغضب الذي ظهر على وجه هذا الرجل؛ إذ أنه لو كان القيام والقعود عنده سواءً لما غضب أبداً، إذاً غضبه دليل على أنه ممن يُسر بذلك.

وكذلك سائر الأحاديث التي يكون فيها الحكم متعلقاً بأعمال القلب، ولا سبيل إلى معرفتها، فلا بد من البحث عن قرينة خارجية نعلق بها الحكم، ويكون لها ارتباط بعمل القلب.

لكن لو أن الناس قاموا لاستقباله، فهذا جائز؛ بدليل أن فاطمة رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام لاستقبالها وأجلسها في مكانه، وكذلك حديث زيد بن ثابت لما قدم على النبي عليه الصلاة والسلام فقام فاستقبله والتزمه -أي: اعتنقه-.

ومن المسائل التي ينبغي التنبيه عليها أيضاً: مسألة العناق، فإن العناق لا يكون إلا لمن أتى من سفر، أما إذا كنا من أهل الحضر، ونحن نلتقي ولو على فترات متباعدة، فإنه لا يشرع هذا العناق الذي يكون عادةً بين الإخوة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل -كما في سنن الترمذي-: (إذا قابل الرجل أخاه أيقبله؟ قال: لا.

أيلتزمه -يعني يعتنقه-؟ قال: لا.

أينحني له؟ قال: لا.

أيصافحه؟ قال: نعم).

فلا يشرع في هذا كله إلا المصافحة، أما العناق والالتزام فلا يكون إلا للقادم من سفر، كما جاء في حديث زيد بن ثابت الذي حسنه الإمام الترمذي: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء زيد المدينة قام إليه واعتنقه)، وحديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي رواه الإمام أحمد وغيره، لما بلغه أن عبد الله بن أنيس عنده حديث لم يسمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، فابتاع جابر بعيراً وسار عليه شهراً، حتى وصل إليه، فقال للغلام: قل له: جابر.

فقال عبد الله بن أنيس: ابن عبد الله؟! فقال له: نعم، قال: فخرج فاعتنقني -أو قال: فالتزمني- وقال: ما جاء بك؟ قلت: حديث بلغني عنك إلى آخر الحديث.

فهذا الصحابي الجليل عانق أخاه بعد القدوم من سفر، أما ما يحدث بين الإخوة من التقبيل -وبالذات قبلة الخد- فهذا أمر عجيب جداً! إنما التقبيل الذي ورد في الأحاديث هو التقبيل في الجبهة، أي: ما بين العينين، هذا هو الذي يشرع دون غيره.