للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غياب العدالة والحدود في بلاد الإسلام]

حكم الله عز وجل في هذا المرتد أن يحضروه، ولو أرادوه لأتوا به، فحكم الله عز وجل أن يقتل هذا المرتد، لكن بكل أسف ليس عندنا جهةٌ تنفيذية، والآن محكمة النقض أتعبت نفسها في القراءة ثم خرج التقرير في (٣٤) صفحة، وشغلوا الناس وأملئوا الصحف، ثم بعد كل هذا: هل هناك جهة تنفيذية لتطبيق الحكم على المرتد؟ لا.

كل هذا مجرد حبر على ورق.

وما حدث للمستشار غراب ليس عنكم ببعيد، الرجل أراد في آخر حياته أن يحكم بالشرع، فقال: لا يأتيني رجلٌ زنى وقد أحصن إلا حكمت عليه بالرجم، والقصة الآتية حدثت في محكمة أسيوط: فالرجل كلما أتى إليه برجل زان محصن، والمحصن هو المتزوج إذا زنى، فكان المحامون كلما أتت قضية زان محصن يحاولون تأخير القضية حتى تقع في دائرة غراب، لماذا؟ لأن غراباً قال: لا أحكم إلا بشرع الله، وشرع الله هو الرجم، وهذا حكم الله في القرآن والسنة، وصحيحٌ أنه لم يأت في القرآن إلا الجلد، لكن الرجم كان ثابتاً بآية من آيات القرآن ثم نسخت ورفعت كلها بإجماع العلماء، وثبت هذا الرفع في كتاب الحدود من صحيح البخاري رحمه الله في باب رجم الحبلى من الزنا، وفيه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، وإنه كان مما نقرأ من كتاب الله آية الرجم)، هذا كلام عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري، وهذه الآية نُسخت تلاوة ورفعت، ونص الآية كما ورد في مستدرك الحاكم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم).

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أورد آيةً أخرى رفعت من القرآن في هذا الكلام، فقال: وإنه كان مما نقرأ في كتاب الله عز وجل الآية الآتية: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) فهذه كانت آيات ورفعت بإجماع العلماء، لأن النسخ على نوعين: ١ - ما نسخ حكمه وبقي لفظه، مثل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩].

٢ - وما نسخ لفظه وبقي حكمه، مثل آية الرجم، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنه كان مما نقرأ آية الرجم، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمتُ، وأخشى أن يطول بالناس زمان، فيقول قائلٌ: ما نجد الرجم في كتاب الله؛ فيذلوا بترك فريضة أنزلها الله)، فالرجل أراد أن ينفذ حكم الله، فكلما أتى له زانٍ محصن يقول: حكمت المحكمة برجم الزاني، وهنا نتساءل: هل هناك جهة تنفيذية تنفذ الرجم، لا.

ليس هناك جهة لتنفيذ الرجم، فمعنى هذا الحكم أن الرجل أخذ براءة، رفعت قضية إلى محكمة أسيوط في رجل زانٍ محصن، وكانت القضية في الليل للمستشار غراب، ثم انتظروا حتى الصباح، ثم صدر الحكم: حكمت المحكمة حضورياً برجم الزاني فلان الفلاني، وإذا بالقاعة تضج بالتصفيق: يحيا العدل!! يحيا العدل!! وما معنى (يحيا العدل) والرجل حكم عليه بالرجم؟! يعني الإعدام، إزهاق الروح، والسبب في قولهم: (يحيا العدل) أنه أخذ براءة؛ لأنها لا توجد جهة تنفيذية تقوم بتطبيق الحكم.

وهذا أمر لا يجوز!! قد يقول شخص: بما أن الحكم بالرجم حبر على ورق فهل من الممكن أن نبدل هذا الحكم بالسجن مثلاً؟! وهل يعني هذا أن غراباً غلطان مثلاً؛ لأنه لم يحكم عليه بالسجن، كأقل رادع من العقوبة؟! هل يسعه ذلك؟!

الجواب

لا يجوز لأحدٍ أن يبدل حكم الله بدعوى أنه لا يوجد من ينفذه، ليس هذا من سلطة القاضي، فالقاضي يحكم، والحاكم هو المسئول عن التنفيذ، لكن ليس من سلطة القاضي طالما لا توجد جهةٌ تنفيذية أن يقول: لابد أن أعمل أية عقوبة عليه حتى لا يخرج براءة، سيقول شخص: ما دليلك على ذلك؟ أقول: حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في صحيح البخاري أيضاً، ورواه البخاري في كتاب الحدود في باب الاعتراف بالزنا: (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر وكان أفقه الرجلين: نعم، يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله -وانتبه لهذه المقولة: بماذا قالا؟ بكتاب الله، لكن ما هو الموضوع؟ - فقال الرجل الثاني: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا وإنه زنى بامرأته -والعسيف هو الأجير، وسمي عسيفاً؛ لأنه يعسف ويتعسف معه- وإني ذهبت إلى جماعةٍ فقضوا أن على ابني الرجم؛ فافتديت ابني بمائة شاة وخادم، فقال عليه الصلاة والسلام: والله لأقضين بينكم بكتاب الله، أما الغنم والخادم فردٌ عليك)، وانتبه هنا للكلام، هو بدل حكم الله بفدية، قالوا له: ابنك عليه الرجم، فقال: لا.

وأدفع مائة من الغنم وخادماً، فقال له: لا.

أما غنمك وخادمك فردٌ عليك، ونحن نسوق هذا الكلام أيضاً إلى الجماعة الذين أحلوا الفروج الحرام من مقيمي الشعائر الجهلة بأحكام الطلاق، كم أحلوا من فرجٍ محرم، يفتون في الطلاق، يا أيها الناس! لا يجوز لكم أن تستفتوا هؤلاء.

يوم أمس الأول كنت أصلي الفجر في الريف، فوجدت رجلاً وامرأته أمام المسجد، وقالا لي: نحن نبحث عنك؟ فقلت: ما بكما؟! فاتضح أن الرجل طلق امرأته، ادعى أنه كان سكران، والمرأة تقول: لا، وادعت أنه لا يضبط الكلام، وأنه قال لها أول مرة: أنتِ طالق بالثلاث، ثم ذهبا لفلان فرد أن هذا يمين! وهل هذا يمين؟! فجاء في المرة الثانية وقال لها: أنت طالق بالثلاث، فرد مرة أخرى أنه مجرد يمين، وكل مرة يأخذ عشرين جنيه ويرد بأنه ليس بطلاق وإنما يمين، وثالث مرة قال لها: أنت طالق بالثلاث، ورابع مرة البارحة قال لها: أنت طالق بالثلاث، وهذا كلام صريح مثل الشمس، فقالت المرأة عندما قال لها في الرابعة أنت طالق بالثلاث: أنا لا أريد هذه المرة الذهاب للمفتي السابق!! فقلت لهما: المرأة من الطلقة الثالثة زانية وأنت زانٍ، إن لفظة: (أنت طالق) لفظ صريح في إيقاع الطلاق.

وليس عند العلماء جميعاً أي إشكال في وقوع الطلاق بهذا اللفظ الصريح، بل إن الأئمة الأربعة وجماهير أصحاب الأئمة الأربعة على أن امرأة هذا الرجل طالق من المرة الأولى طلاقاً بائناً، ويقول الأئمة الأربعة: من قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً، فهي طالقٌ ألبتة لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وخالف في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم رحمهما الله، وقالا: لا.

مفهوم العدد لا يكون إلا إذا تكرر، فلو سمع رجلٌ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال مائة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر)، فجاء رجلٌ فقال: (سبحان الله وبحمده مائة مرة) فهل قالها مائة مرة أو مرة واحدة؟ قالها مائة مرة، كذلك الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ ألف مرة فإنه لا يفهم من العدد إلا مرةً واحدة، إلا إذا كرر هذا العدد في مجالس منفصلة فقال لامرأته: أنت طالق! فخرج ثم دخل، فقال لها: أنت طالق! فخرج ثم دخل، فقال لها: أنت طالق! وهكذا فمع كل طلقة بمجلسٍ جديد، فتكون قد كررت العدد مرةً ومرة ومرة، قال الفقهاء: فلو قال لامرأته: أنت طالق، طالق، طالق، طالق، طالق، فكل طلقةٌ تقع بمفردها، لماذا؟ لأن العدد مفهومه التكرير، وقد كرر، إنما الإشكال أن يجمل العدد في لفظٍ واحد فيقول: أنت طالق مائة مرة، وقعت مرة واحدة؛ لكن لو ظل يقول: أنت طالق، طالق، طالق، طالق، على طول هكذا فإن الطلاق يقع.

وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله رفضا أيضاً هذه المسألة، والمهم أن المسألة فيها بحث طويل، والمحاكم الآن في مصر والشام على فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

فعلى فتوى العلماء السابقين تكون امرأة هذا الرجل طالق منذ زمن الطلقة الأولى، وعلى فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله امرأته طالق من الطلقة الثالثة، ومع ذلك كنت أصلي في المسجد فوجدت الرجل وامرأته واقفين يبيعون العنب، ما الذي حصل؟ قالا: إنما ذهبا إلى مدير الأوقاف وأرجعها له، فهنا لا يكون إلا واحد من اثنين: إما أن يكون مدير الأوقاف لا يفقه شيئاً، وإما أن يكونا دلسا عليه، ونقلا له كلاماً غير الذي قالاه لي لما وجدا الحكم صريحاً.

وأنا أقول هذا الكلام لأن هناك أناساً يقولون: ادفع عشرين جنيه وأرجع امرأتك، فنقول له: لا.

أما العشرون فردٌ على صاحبها وقد وقع الطلاق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، (أما الغنم فهي ردٌ عليك والجارية ردٌ عليك) -أي الخادم كما ورد في بعض الروايات- ثم قال: (فأما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام، وأما امرأة هذا فعليها الرجم).

وتأمل ما ورد في الحديث: (قالوا: اقض بيننا بكتاب الله، فقال: والله! لأقضين بينكم بكتاب الله) فهل تجدون الرجم في كتاب الله؟! وهل الجلد في كتاب الله؟ نعم.

لكن هل التغريب في كتاب الله؟ ليس في كتاب الله.

إذاً: قوله: (والله! لأقضين بينكم بكتاب الله) يدل على أن السنة من الوحي، وهي داخلةٌ دخولاً لازماً في قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، إذاً: الذكر عند جميع علماء المسلمين قرآن وسنة.

ومما يدل على ذلك هذا الحديث المتقدم الذي رواهُ الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، قال: (والله! لأقضين بينكم بكتاب الله)، فقضى بما ليس في كتاب الله نصاً وقد ثبت في السنة، فدل على أن السنة هي من كتاب الله عز وجل، لقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤].