[طوبى للغرباء]
فيا أيها الغرباء في زمن الغربة: لكل زمانٍ غربة وغرباء، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء فقال: (طوبى للغرباء) طوبى للذين يصبرون على مخالفة السواد الأعظم، ويتركون متع الدنيا لما يعتقدون أنه الحق: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:٢٩]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة؛ يسير في ظلها الجواد المضمر مائة عامة لا يقطعها، وتلا أبو هريرة قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:٣٠]) الظل الممدود: شجرة واحدة في الجنة، الفرس المضمر -الذي يمنع عنه الطعام ليلة السباق فتضمر بطنه ويخف وزنه فيسبق غيره من الخيل- فإذا ركبت الفرس هذا وأطلقت له العنان مائة سنة، لا يقطع ظل هذه الشجرة، هذه هي للغرباء، علامة لهم، إن هؤلاء صبروا على مخالفة السواد الأعظم، وضحوا بمتع الدنيا، ولم يضحوا بالهدى، والذي يعرف الله عز وجل يستعذب العذاب كله فيه لو عرفه حق معرفته.
وسئل سعيد بن المسيب رحمه الله (عما يراه عند أهل الدنيا من المتع؟ فقال: مساكين! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا ألذ ما فيها.
قالوا: وما ألذ ما فيها يا أبا محمد! قال: ذكر الله)، هذا ألذ ما في الدنيا كلها، الذي يتعود على الذكر ويدمنه، والذي هو حياة قلبه؛ لا يشعر بغربةٍ على الإطلاق؛ والله لا يغيب عنه طرفة عين.
فلماذا يطول الليل على المريض؟ ولماذا الآلام تكون أشد على المريض في الليل دون النهار، مع أن المرض واحد، وقد يكون النهار أطول والليل أقصر، ولكن الليل دائماً طويل على المريض والمرض أشد فيه لماذا؟ لقلة العواد، لقلة الزائرين، وأما النهار فمهما كان مريضاً وكان المرض شديداً والزوار يعودونه فإنهم يخففون عنه، أحدهم يقول له: نحن نتمنى لك الشفاء.
فلما يحس أنه محل أفئدة الناس، وأن كل الناس تحبه، وكل الناس متوجعة لما أصابه، وكل الناس تتمنى له الشفاء، فيخف عليه المرض، لكن في الليل لا أحد يزوره ولا أحد يعوده؛ لذلك يشعر أنه غريب وحيد منفرد، فتزيد عليه الآلام، برغم أن الآلام كانت بنفس قوتها في النهار.
كذلك إذا شعر المرء أن الله غائبٌ عنه، وأن الله لا يكلؤه، وأن الله لا يرعاه؛ يشتد عليه البلاء.
وأقل البلاء يكون -عليه- مصيبة كبرى بذلك، أما الذي يشعر أن الله لا يفارقه، وهو معه بصفة دائمة فكلما ذكره التذ بذكره، وما أجمل وأحلى وأعذب وأطيب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من الماء البارد)، ولا يقدّر مدى حب الماء البارد على ظمأ إلا رجل تكاد عنقه تنقطع من الظمأ في يومٍ شديد الحر وقدم إليه كوب ماء بارد، فإذا شربه وروى ظمأه شعر بحلاوة هذا الدعاء: (اجعل حبك أحب إليَّ من الماء البارد).
نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إليه رداً جميلاً، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.