[الإمام الشافعي وأدبه مع محمد بن الحسن الشيباني]
عندنا مثل رفيع جداً للإمام الشافعي مع الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة -رحمة الله على الجميع- مع أن الإمام الشافعي كان أرفع وأعلى قدراً من محمد بن الحسن، فقدره كقدر أبي حنيفة رحم الله الجميع، وكان محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف يمشيان على أصول أبي حنيفة، وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن دونه وعمن مثله).
أي: لا يستنكف الإنسان النبيل أن يأخذ فائدة ممن هو أقل منه.
فالإمام الشافعي ذهب إلى الإمام محمد بن الحسن الشيباني يتلقى عنه علم أبي حنيفة، فكان لا يعجبه بعض ما يقوله محمد بن الحسن ولكنه لا يعترض، كان يسكت، فإذا قام محمد بن الحسن ناظر الشافعي أصحابه فظهر عليهم، الشافعي يقول لهم: تقولون كذا؟ فيقولون: نعم.
يقول: فما تقولون في كذا؟ وما تقولون في كذا؟ فيلزمهم الحجة فلا يستطيعون جواباً، فتكرر هذا الأمر مرات، فأبلغوا محمد بن الحسن وقالوا: إنك تقوم فيناظرنا الشافعي فلا نستطيع أن نرد عليه.
فقال محمد بن الحسن: هلاّ ناظرتني.
فقال الشافعي: إني أجلّك عن المناظرة.
انظر إلى الأدب العالي! قال محمد: فلابد.
فقال له: أنتم تقولون -وهذا نوع من أدب الشافعي في المناظرة مع أستاذه الذي هو من أقرانه محمد بن الحسن الشيباني أنتم تقولون بنقض الوضوء بالقهقهة؟ قال: نعم: أي: ولو أن رجلاً قهقه في الصلاة بطلت صلاته وفسد وضوءه.
قال: فما تقول في رجل قذف محصنة في الصلاة، أي: بينما هو يصلي فمرت امرأة قال لها: أنت زانية.
قال: صلاته باطلة.
قال: فما حال طهارته؟ قال: كما هي.
قال: سبحان الله! أقذف محصنة في الصلاة عندكم أهون من قهقهة؟! فألجمه.
قال: فأخذ محمد نعله وانصرف.
وهذا الشيخ العلامة النحرير ذهبي العصر الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في كتابه العظيم -أنا أنصحكم أن تشتروا هذا الكتاب- كتاب التنكيل بما في تأويل الكافرين من الأراجيف، هذا أعظم كتاب قرأته في باب الرد، فهو يلزم الخصم الحجة بمنتهى الأدب، فذكر مما ذكر في مناظرات الشافعي مع محمد بن الحسن الشيباني، وأن الشافعي لم يعجبه قول محمد بن الحسن في المياه، وفي نجاسة المياه، فقال له: إنكم لتقولون قولاً لعله لو قيل: تخطاطأ فقال قولكم لكان قد أحسن التخاطؤ.
! هذه عبارة راقية جداً، قال الشيخ العلامة عبد الرحمن اليماني رحمه الله: فكان الشافعي رحمه الله يستوفي حقه حتى في التشنيع، ولكن انظر كيف شنع! هذا القول رغم أنه شديد جداً إلا أنه رقيق، هذا كله ما ورثه الإمام الشافعي ولا ورثه محمد بن الحسن إلا بعد ذهاب الكبر، والقعود أمام الشيوخ، فمصيبتنا عدم وجود العلماء الربانيين الذين نرسل إليهم أبناءنا حتى يتلقون العلم منذ نعومة أظفارهم، وجيلنا هذا جيل حسبه أن يكون قنطرة للجيل القادم، ما منا من أحد إلا أدرك هذا الإسلام وهذا العلم على مشارف الجامعة، لكن بعدما ذهبت السنون الأولى الخطيرة في حياة الإنسان، وهي أيام الصغر: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وإني لأذكر قصةً فيها هذا المعنى: أن رجلاً أعرابياً تزوج امرأة على امرأته الأولى، وكان البيتان متجاورين، فصعدت جارية المرأة الجديدة على السطح، فوجدت جارية المرأة القديمة على الباب، فأنشدت وقالت: وما تفعل الرجلان رجلٌ صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت تعرض بالمرأة القديمة، وأن المرأة الجديدة هي سيدتها، فتكرر هذا الكلام من جارية المرأة الجديدة، فبينما هي تمر يوماً إذ قالت لها جارية القديمة: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وهذا شيء واقع، أنت قد تكون ولدت هنا في الإسكندرية في منطقة معينة، ثم تذهب إلى بلاد الدنيا ويكون لك شأن عظيم، فإذا رجعت تشعر بحنين في قلبك وأنت تشاهد ملاعب صباك كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل يحن كل إنسان إلى جذره الأول، إلى حياته الأولى فلو كانت حياتنا تمشي على الفوضى كما كانت حياة كثير منا وأدركتنا عناية الله عز وجل، فهذا لا يتصور فيه الثبات مثل الذي ينشأ منذ نعومة أظفاره على محاسن هذا الدين.