للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تجربة دعوية فيها عبرة]

سوف أسوق لكم تجربتي، ولا أسوقها لأنني في موضع الحجة، بل أسوقها لأنني عاينتها، كيف أن الإحسان إلى الخلق يمرر دعوتك بأسرع من حجتك، كم من أناس بلغاء وقف الحاجز في النفس مانعاً دون وصول الدعوة إلى قلوب الخلق.

أول ما بدأنا نتعلم العلم الشرعي وذلك في أوائل السبعينات، كانت هناك عاطفة، ولم نكن نعلم أن هذه العاطفة ينبغي أن يواكبها علم، ولم نكن نعلم أيضاً أن النصوص الشرعية تتفاوت في القوة، فبعض النصوص تكون واجبة، وبعض النصوص تكون مستحبة، وبعض النصوص تكون مباحة.

فكنا إذا علمنا شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام في اعتقادنا أنه يجب فعله، ولو طارت فيه رقاب، لم نكن نعرف أن المستحب يترك، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الذهبية التي ذكرها في مجموع الفتاوى: (إن من المستحب ترك المستحب لتأليف القلوب).

فكنا نقرأ في كتاب شيخنا أبي عبد الرحمن ناصر الدين الألباني -حفظه الله وأطال في عمره ومتع به- تحريك الإصبع في الصلاة، وتحريك الإصبع كما علمني شيخنا بأن تجعل يدك على صورة واحد وخمسين، ثم تضعها على ركبتك، ثم ترسل إصبعك هذه إلى القبلة، ولا تحركها هكذا بل حركها هكذا ولا تصرف هذه الإصبع عن القبلة.

نحن قرأنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك إصبعه فكنا نحركها هكذا وكل واحد يحركها على اجتهاده، فأنا كنت أحركها هكذا فوقت الصلاة أنت تفعل هكذا والرجل الذي بجانبك لم يعتد على هذا، بل اعتاد على التحريك في النفي والإثبات.

فبدأنا نحرك الأصبع بهذه الصورة ونحن نصلي، فقال لي الرجل الذي صلى بجانبي: (هُوَّ انته طول الصلاة) وأشار بأصبعه.

فقلت له: أنت تستهزئ بالسنة، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، استغفر الله، وكنت أكلمه بعصبية، كيف تستهزئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وضعته في خندق المستهزئين.

وكنا أيضاً نجلس جلسة الاستراحة، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاة لا يقوم حتى يستوي قاعداً، أي: بعد الركعة الأولى وبعد السجدة الثانية قبل أن يقوم من الركعة الثانية يجلس ثم يقوم، ثم في الركعة الثالثة التي هي الوتر -والوتر في الصلاة هي الركعة الأولى والركعة الثالثة- قبل أن يقوم من الركعة الرابعة يستوي جالساً، ثم يقوم.

وبعد السجدة الثانية سأقوم إلى الركعة الثانية بهدوء، وأعرف أنني سأجلس، وصاحبي بجانبي كان ساهياً فقام للركعة الثانية فرآني قاعداً فقعد ظناً منه أنه سها؛ لكنه سرعان ما رآني قمت فقام، كل هذا بحركة عصبية لم يرتب لها، لكن أنا أعرف أنني سأقعد ثم أقوم بهدوء، لكن كبر عنده هذا الأمر.

فهذه الأشياء كلها تدينه في صلاته أنه ساه، وغير منتبه لصلاته، فبعد الصلاة تقوم معركة بيننا، يقول: هذا دين جديد، وأنتم غيرتم الدين، ويحصل نوع من النفور الشديد، ونحن في غاية الإصرار على هذا الفعل، ولا ندري أن جلسة الاستراحة مستحبة، وتحريك الإصبع مستحب.

وتنفير قلوب هؤلاء لا يجوز، ومحرم أن ننفر قلوب هؤلاء، وظللنا خمس سنوات نحاول عبثاً أن نقنع الناس بسنة واحدة، وهي صلاة سنة المغرب القبلية، والناس في اعتقادهم أن المغرب غريب، فتؤذن للصلاة وتقيم بنفس واحد، ونحن نريد أن ننشر هذه السنة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! ثم قال: لمن شاء) فقوله: (لمن شاء) كانت كفيلة أن تردعنا عن الإصرار على صلاة ركعتين قبل المغرب، لكننا كنا نعتقد أننا نعامل أناساً جهلة، ولابد من تعليم الجهلة ولو بالسلاسل.

فكنت أنا الإمام وكان المؤذن من أصحابنا، فاتفقنا وقلت له: بعد أن تقول: (لا إله إلا الله) سيقولون لك: أقم الصلاة، ونحن لا نريد ضجة، فأنا سوف أكون متوجهاً إلى القبلة، فأول ما تنتهي من قول: (لا إله إلا الله)، فسأقول أنا: (الله أكبر) وأصلي، وأنت أيضاً بعد أن تنتهي من الأذان ارجع إلى الخلف وصل، حتى لا تتيح الفرصة لأي أحد فيقول لك: أقم الصلاة.

وفعلاً نفذنا ما اتفقنا عليه، فكنا أول ما ينتهي صاحبي من الأذان أكبر، ثم يكبر ونصلي، فما الذي كان يحصل؟ كانوا لا يصلون، إنما كانوا يشتموننا حتى نفرغ من الصلاة، وعجزنا أن نقنعهم بصلاة ركعتين سنة قبل المغرب، وظل الوضع هكذا لمدة خمس سنوات، فبدأت أحضر دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وبدأنا لأول مرة نتعلم في أصول الفقه أن مراتب النصوص الشرعية مختلفة، فهناك ما هو واجب قوي، وفيه ما هو مستحب يمكن تركه، وفيه ما هو مباح على استواء طرفيه ونحو ذلك.

وبدأ الإنسان يعرف شيئاً من العلم، فلما رجعت إلى البلدة مرة أخرى، لم تمض ستة أشهر إلا وقد أمضيت دعوتي في وسط هؤلاء الناس، وفي هذه المدة الوجيزة التي عجزت على مدار خمس سنوات أن أفعلها معهم.