[أهمية العلم للداعية]
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
أيها الإخوة الكرام: درسنا في هذا المساء بعنوان: أين الخلل؟! وأعرض فيه للجنس الثاني من الكلام على هذا الموضوع الخطير، وهو وإن كان الجزء الثاني؛ إلا أنه مستقل بذاته.
الناس في هذه الدنيا يتنافسون على الوظائف، ويُعرف شرف المرء وهمته بوظيفته، وأشرف الوظائف في الدنيا هي وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل، إذ هي وظيفة الرسل، فهذه هي أشرف الوظائف على الإطلاق، فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى لها ثلاثة أركان: الدعوة، والداعيةُ، والمدعو، ودرسنا هذا المساء يتعلق بالداعية وما ينبغي أن يتحلى به، فهو يبلغ رسالات الله عز وجل.
جرت عادة الدول أنها إذا أرسلت سفيراً لها في الخارج فإنها لا ترسل رجلاً جلفاً غبياً غليظاً، إنما ترسل رجلاً ذا لسانٍ عذب ذكياً صاحب بديهة، إذا وقع في محنة فلا يورط نفسه ولا دولته، وتسمع كثيراً عن الإجابات الدبلوماسية.
معنى إجابة دبلوماسية يعني لا تحل ولا تربط، لا تستطيع أن تدين بها المتكلم؛ لأنه لما تكلم ترك لنفسه أكثر من مهرب، فإذا قلت له: أنت تقصد كذا؟ قال لك: لا.
أنا لم أصرح بذلك، وإذا قلت: تقصد كذا؟ يقول: لا.
أنا لم أجب بذلك، هذه هي الإجابات الدبلوماسية، أي أنك لا تستطيع أن تدين القائل، ولا تستطيع أن تقيم عليه حجة، بينما أي سفير غبي يورط دولته، ومعلومٌ أن الرئيس إذا أرسل رجلاً يتكلم باسمه حمل عهدته، وأنت إذا وكّلت رجلاً عنك بتوكيل رسمي صار توقيعه محلك، يبيع مالك، وأملاكك، ويشتري مكانك، بتوقيعه هو نيابةً عنك، ويمضي بيعه وشراءه، لماذا؟ لأن هذا التوكيل قائم مقام الشرع.
فالمتكلم عن الله تبارك وتعالى في الدنيا هم الرسل وأتباع الرسل، فالعلماء هم الذين يوقعون عن الله في الأرض، فيجيء المستفتي إلى العالم فيقول: إني عقدت صفقة كذا وكذا وفيها ربح وفير، أفأمضيها؟ فيقول له: لا.
فيتجنبها الرجل ويخسر بذلك الصفقة والمال والربح، بمجرد إمضائك وتوقيعك، يأتيك يقول لك: أنا طلقت امرأتي وقلت لها كذا وكذا مرتين أو ثلاثاً تقول له: هذه ليست امرأتك! فتفصلها عنه، ويشرد الأولاد بقولك، ولا يستطيع أن يخالفك؛ لأنك توقع عن الله عز وجل في الأرض.
ومن أعظم الجرائم أن تزيف التوقيع في الدنيا، فلو اكتشف رئيسٌ أو مدير أن رجلاً زيّف توقيعه أدخله السجن مباشرة، وذلك لو اكتشفوه، فكيف لو جاء رجلٌ ليس بأهلاً لأن يوقع عن الله في الأرض ووقع؟! إذاً هذا توقيع مزيف! فإذا كان في الدنيا يتعرض للعقوبة فكيف لا يتعرض للعقوبة في الآخرة؟ بل سيتعرض لأشد العقوبات؛ لأن توقيعه توقيع مزيف.
لهذا كان لابد للداعية أن يتحلى بالعلم، قال الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:٥٩]، لا تسأل عن الرحمن جاهلاً، إنما إذا أردت أن تسأل عن الرحمن فاسأل خبيراً به تبارك وتعالى، وبصفاته، وبما أنزله من العلم على رسله، فأول شيء ينبغي أن يتحلى به الداعية إلى الله عز وجل هو العلم، ولا يحل له أن يفتي إلا عن علم، لذلك كانت حاجة طالب العلم للعالم فوق كل حاجة، وموت العالم من أعظم المصائب التي تصيب طالب العلم، وحاجة طالب العلم إلى الكتاب مثل حاجته إلى الطعام والشراب.
وأذكر واقعة ذكرها ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان في ترجمة الشريف المرتضى، قال: ذكر أبو زكريا الخطيب التبريزي رحمه الله، صاحب كتاب مشكاة المصابيح الأديب اللغوي: أن أبا الحسن علي بن أحمد بن علي الفالي كان له نسخة عزيزة نفيسه من كتاب جمهرة اللغة لـ ابن دريد، فاضطرته الحاجة إلى بيعها، فباعها بستين ديناراً، واشترى هذه النسخة الشريف المرتضى صاحب الترجمة التي ذكر فيها ابن خلكان هذه القصة، فلما تصفح الشريف الكتاب وجد هذه الأبيات التي كتبها أبو الحسن الفالي، ويقول فيها: أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال شوقي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقارٍ وصبيةٍ صغارٍ عليهم تستهل شجوني فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ مقالة مكوي الفؤاد حزيني وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فلما قرأ الشريف هذه الأبيات أرجعها إلى أبي الحسن وترك له الدنانير، فانظر إلى حزنه على نسخته من كتاب الجمهرة، والبيت الأخير من هذه الأبيات: تضمين، والتضمين في الشعر معناه: أن يأتي الشاعر إلى بيتٍ لشاعرٍ آخر سبقه فينظم القصيدة على وزن البيت وقافيته، وقد ضمن أبو الحسن الفالي آخر بيت في قصيدته حيث قال: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فهذا البيت قاله رجلٌ أعرابي فيما رواه الزبير بن بكار رحمه الله، قال: اشترى حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام جملاً من رجلٍ أعرابي، وكان الأعرابي شديد الحفاوة بالجمل لكن اضطر إلى بيعه، فلما اشترى حمزة الجمل وأعطى الأعرابي خمسين ديناراً، واستاق حمزة الجمل نظر الأعرابي إلى الجمل وهو يبكي لفراقه، وقال: وقد تخرج الحاجات يا أم مالكٍ كرائم من رب بهن ضنيني أم مالك هي امرأة الأعرابي، يقول: يا أم مالك: إن الحاجة تضطر الإنسان أن يبيع شيئاً كريماً ضنيناً به، لا يستجيز لنفسه أن يبيعه لكن الحاجة اضطرته إلى بيعه رغم أنه عزيز عليه: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فلما سمع حمزة بيت الأعرابي أعطاه الجمل وترك له الدنانير، وكان أبو الحسن الفالي رحمه الله مشهوراً بتضمين الشعر، وهو صاحب الأبيات الرائقة المشهورة التي صارت على كل لسان، يقول فيها: تصدر للتدريس كل مهوس بليدٍ تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديمٍ شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها فلاها وحتى سامها كل مفلس هذا البيت الأخير أيضاً ضمنه أبو الحسن الفالي هذه الأبيات.
المهم: أن الكتاب من أنفس ما يقتنيه طالب العلم، مثل السلاح بالنسبة للمقاتل، إذا فقد المقاتل سلاحه غلبه عدوه، وبذلك لا يتصور طالب علمٍ ينهض بغير مكتبة عامرة بالكتب، وبغير المراجع الأصلية، كان العز بن عبد السلام رحمه الله يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن صار عندي نسخةٌ من كتاب المغني لـ ابن قدامة، والمحلى لـ ابن حزم، والعز بن عبد السلام من أذكياء العالم، ومع ذلك يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن حصّل هذين الكتابين.
فجلوس طالب العلم بين يدي شيخه والتعلم من هديه وسمته ولحظه قبل لفظه أمر في غاية الأهمية، وإذا لم يلحظ طالب العلم أدب شيخه لم ينتفع بمقاله، والسلف كانوا يتعلمون الأدب قبل العلم، فإذا أحرز الأدب نَبُلَ في العلم، وإذا لم يحرز الأدب لم يزده علمه إلا خسةً ونزولاً؛ فإذا جلس في مجلس ملأه، فإذاً اللحظ قبل اللفظ، وإذا عجز أن يكون مؤدباً فإنه لا ينبل بعلمه أبداً.