[الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له]
وأختم هذا الدرس بفائدة ذكرها العلماء، يقولون: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
والكلام هذا موجه لأحد الجهلاء العابثين الذي نشر كتاباً بعنوان: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب).
وقد تكلم عن مفهوم المخالفة في هذا الكتاب ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى:.
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦]؛ فمفهوم المخالفة: ولو جاءكم عدلٌ فلا تتبينوا، المفهوم عكس الكلام.
إذاً: ضبط الكلام الذي هو مفهوم المخالفة، فأول الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)، قال العلماء: فيه دلالة على أن المرأة غير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الكلام إذا ورد مقيداً ثبت الحكم للمقيد وانتفى عما عداه، فإذا قلت: لا تنتقب المرأة المحرمة، فقد قيدت الحكم بإحرامها، إذاً عكس الإحرام أن تنتقب، فقال مؤلف هذا الكتاب: إن مفهوم المخالفة ليس بحجة، وإذا قلتم أن مفهوم المخالفة حجة، فأنا ألزمكم بأكل الربا، قال: إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠]، فعلى قولكم يجوز أن يؤكل مرة واحدة، هذا مفهوم المخالفة -حسب زعمه-: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠]، مفهوم المخالفة كلوا ضعفاً واحداً، فنقول: لو أننا قلنا بمفهوم المخالفة مثلكم لأحللنا الربا.
وهذا رجل جاهل؛ لأن العلماء يقولون: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له، ليس له مفهوم ولا يعتبر به، فلما كان العرب يضاعفون أكل الربا قال الله لهم: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠]، فليس في ذلك حل لأكل الربا ضعفاً واحداً؛ إذ أن الكلام تنزل على الغالب من فعلهم، وإلا فأنا ألزم هذا الجاهل بإلزام لا انفكاك له منه، وهو: أن الله عز وجل حرم على الرجل أن يتزوج ابنة امرأته التي هي ربيبته، قال الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:٢٣]، فنقول: الربيبة في الحجر، أي: التي ربيتها في حجرك، فربنا سبحانه وتعالى يقول: لا تتزوج الربيبة التي ربيتها في حجرك، فهل يجوز أن تتزوج الربيبة التي لم تربها في حجرك؟ لا يجوز إذاً: هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأن المرأة إذا كان لها ابنة صغيرة وتزوجت، فإنها تأخذها إلى بيت زوجها، هذا هو الغالب من فعل النساء، وليس الغالب أن تترك المرأة بنتها الصغيرة تتربى عند زوجها الأول، بل الغالب من فعل النساء أن المرأة تصطحب ابنتها الصغيرة لتتربى عندها في حجر زوجها الجديد، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهومه هدر، ولا يعتبربه.
ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه)، فلو كان زوجها غائباً وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها الصوم.
فما معنى: (وزوجها شاهد)؟ قالوا: قيد الامتناع بالحضور، فهذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الرجل لا يحتاج إلى زوجته إلا وهو شاهد معها، فعندما غاب عنها لا يحتاج إليها عادة، فخرج الكلام مخرج الغالب، وإلا فلو سافر وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها أن تصوم، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهوم المخالفة خبر لا يعتبر به.
وهذا الفهم لا يحصله الإنسان إلا بعد وقت في البحث، وبجميع الأمثلة؛ حتى يكون عنده تطور في القواعد، وملكة في الاستنباط، ولذلك فطول الزمان جزء مهمٌ في تنمية الملكة التي تكون عند العالم المتبحر، ولا تكون عند طالب العلم المبتدئ.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.