[الناس تجاه البلاء معادن]
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
الناس أمام البلاء معادن، منهم من يدخل البلاء فيخرج وهو أكثر صلابة وقوة، ومنهم من إذا دخل احترق، والفرق بين هذا وذاك: ما عند هذا من اليقين والصدق، وخلو ذاك من هذا اليقين والصدق.
فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه -وهو ممن ابتلي في الله أشد البلاء- كان جالساً مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وعمر أمير المؤمنين- فقال عمر: ما هناك أحدٌ أحق بهذا المجلس من بلال -أي: ليس هناك أحد أحق أن يكون خليفة المؤمنين لبلائه في الله تبارك وتعالى من بلال -.
فكشف خباب عن ظهره، وقال: انظر يا أمير المؤمنين! فبهت عمر لما رأى ظهر خباب وقال: ما هذا؟ قال: أشعلوا لي ناراً عظيمة وساوموني على ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم فما أطفأ النار إلا ودك ظهري.
ابتلي في الله أشد البلاء وصبر، وكانت العاقبة له، كما كانت لسائر المؤمنين، هؤلاء لا يجعلون عذاب الله كعذاب الناس أبداً.
ويقول خباب رضي الله عنه: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردةٍ في ظل الكعبة.
فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان متكئاً فجلس، وقال: قد كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل، فتحفر له حفرة، وينشر بالمنشار نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعصبة ولا يرده ذلك عن دينه).
أي إنسان مهما بلغت درجة إيمانه يحتاج إلى مثل هذا التسلي، الرسل -وأعظمهم نبينا عليه الصلاة والسلام- أنزل الله قصص الأولين عليه ليسليه رغم قوة إيمانه، ولما حدثت موقعة بدر ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، وبالغ في رفع يديه حتى سقط برده من على منكبيه، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فيقول أبو بكر رضي الله عنه -وقد أمسك بكتفه عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، إنه منجز لك ما وعدك) يستصرخ يريد النصر وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأي إنسان مهما بلغ إيمانه يحتاج إلى التسلي، يحتاج إلى ضرب المثل له ليعلم أنه ليس على طريق البلاء وحده.
وها هو الإمام مالك يجلده أمير المدينة بأمر من أبي جعفر المنصور بسبب فتوى يفتيها ورأي يتبناه، ويموت أبو حنيفة في الحبس، ويحبس الإمام أحمد سنتين، وجلد في يوم الإثنين وهو صائم حتى أغمي عليه ثلاث مرات، ويقولون له: أفطر.
فيأبى أن يفطر، والمجلود يحتاج إلى شربة ماء، وقُيد الإمام الشافعي وجلد بالجريد وهو مقيد، تهون عليك نفسك فلا تغتر، وتقول: لا.
أنا إمام متبوع، أو أنا رجل له ذكر، أو أنا رجل فاهم، ولكن إنما أنا منتسب إلى العلم بسبب تقول هذا، فتهون عليك نفسك، ولذلك نهاية التسلي الاغتباط، الذي يتسلى فيستحضر ما جرى للمؤمنين قبله يغتبط، وهو الرضا بالقضاء.
إذاً: سبيل الرضا بالقضاء استحضار قصص السالفين من الأنبياء والمرسلين، وسائر أوليائهم وأتباعهم، إذا تذكرت ذلك اغتبطت وشعرت ببرد الرضا، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة: (أسألك الرضا بعد القضاء).
إن عائشة رضي الله عنها وهي من هي إيماناً وثقة وزهداً وقرباً، لما حدثت حادثة الإفك، فقالت: (فظللت يوماً وليلة أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فدخلت فأذنت لها، فدخلت تبكي معي).
هذا هو التسلي، عندما يمرض الإنسان وينقطع الناس عنه يشعر بالذل، هذا هو الذل، لا يسأل عنه أحد، أين خدماتي؟ أين عمري أهديته لفلان وعلان، أين أين؟ ماذا كنت تفعل لله؟ لذلك يشعر المرء بذل إذا انقطع العوَّاد، لكن إذا تتابع الناس عليه لا يشعر بالذل، ولذلك قالت الخنساء لما مات أخوها صخر: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي إنها تراعي أن كل إنسان يبكي فهو يشاطرها المصيبة، فتهون مصيبتها عليها.
كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين) بالصبر: لأن هذا البلاء لا ينفك عن الدعاء إلى الله عز وجل، مصداقاً لقول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي)، إذاً: العداء ملازم لدعوة الأنبياء، فيحتاج إلى الصبر على الناس والصبر على العذاب، واليقين: أن الله لن يخذلنا ((وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) [القصص:٨٣] هذا هو الذي يوصلك، وهذا كان الظاهر جداً في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا والحمد لله رب العالمين.