إذاً فهذا الحديث عندما ندرسه نأخذ منه فقهاً، ونأخذ منه علماً وأدباً، ولذلك ننصح الذين يتصدون لتدريس الفقه بتدريس كتب الأدلة، فإذا رأى الشيخ أن من المصلحة تدريس متن فقهي، ساغ له ذلك بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند الطلاب، وأنهم إذا ظهرت لهم الحجة فلا يقدمون عليها قول أحد كائناً من كان، وليكن هذا في حدود الأدب، فمثلاً: أحد الإخوة أعطاني رقعة لا أدري هل هي حاشية على كتاب ما أم ماذا؟ يقول المحشِّي: قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد بن منصور: (وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به)، فعلق المحشي قائلاً:(وهذا خطأ شديد كثيراً ما يقع فيه الحافظ ابن حجر).
! أما (كثيراً ما يقع فيه) فليس هذا أدباً مع الحافظ، لكنه يقع في بعضه، وهذا لا يكاد يسلم منه الإنسان، فلو جمع عشرون خطأً للحافظ ابن حجر لما كانت كثيرة.
فالشيخ إذا رأى تدريس متن فقهي ساغ له ذلك، ولكن بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند التلاميذ، وأن يعلمهم أن يتعصبوا للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من تعصبهم لأي إمام؛ لأن الأئمة الكبار أرشدونا إلى ذلك، وعباراتهم في تبرئة أنفسهم أحياءً وأمواتاً موجودة في الكتب، وهذا المعنى قد نظمه أحد العلماء المتأخرين نظماً رائعاً جداً، فقال في أرجوزة له طويلة -وسأذكر وجه الشاهد منها في أن العلماء رسخوا عند تلاميذهم تعظيم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أولى أن يُتعصب له من قول الإمام- فقال رحمه الله: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذٌ بأقوالي حتى تعرضا على الحديث والكتاب المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتمو قولي مخالفاً لما رويتمو من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر مقالة الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي وبعد ذلك ذكر أبياتاً في التقليد، وذكر القصة الخرافية الموجودة في بعض كتب المتأخرين من الأحناف أن عيسى بن مريم حنفي المذهب، وهذه القصة الخرافية تقول: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل إلى الأرض وقد دُرس القرآن ودرست السنة، والناس سوف يسألونه أسئلة وهو يريد أن يجيبهم، لكنه لا يعرف شيئاً، فيقول: يا رب! أريد أن أجيب على أسئلة الناس، فيقول الله عز وجل له: اذهب إلى نهر جيحون وستجد يداً مرفوعة من الأرض وبجوارها صندوق، فافتحه وستجد الفقه كله في ذلك الصندوق، فيقصد عيسى بن مريم نهر جيحون، فيجد يداً مرفوعة، وبجوارها صندوق، فيفتحه فيجد فقه أبي حنيفة، ويحمد الله عز وجل أنه وصل إلى فقه أبي حنيفة، ويبدأ يقضي به بين الناس.
والعجيب أن الراجز صاحب هذه الأبيات التي ذكرت بعضها، هو حنفي المذهب، يقول: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب وهذا كله من مسائل التقليد التي جاءت في القرون المتأخرة.
إذاً: نقول: إن الشيخ إذا درس متناً فقهياً، أو درس كتاباً من كتب الأدلة، لابد أن يرسخ تعظيم الدليل عند تلاميذه، وإذا رد على عالم أخطأ فلابد أن يتأدب مع هذا العالم؛ لأن هذا العالم أراد الحق فأخطأ، وهذا المنتقد له أيضاً أخطاء، فلو عاملناه بنفس المعاملة لخطأناه، والعلماء الكبار الفحول كان لهم من الذكاء والدربة والممارسة أضعاف أضعاف هذا المتأخر.
ولعلنا نذكر نبذاً يسيرة، وهذا الاستطراد الطويل أردت به أن أبين تعظيم الدليل؛ لأن تدريس الأدلة من أعظم مميزاته: أنه يرسخ ملكة الاستنباط، ويجعل الطالب يأخذ من الدليل الواحد عشرة أو خمسة عشر حكماً فقهياًَ، فإذا جاءت مسألة من مسائل النوازل استطاع الفقيه أن يستخرج هذه الأحكام؛ لأنه مدرب على الدليل، بخلاف الذي يحفظ متناً فقهياً فقط، فإنه لا توجد عنده هذه الملكة، فإن هذه الملكة لا تكون إلا لرجل اهتم بدراسة الأدلة، لكن في حدود ما ذكرت من الأدب والتماس العذر.
ولا أنصح طالب العلم المبتدئ بقراءة كتاب:(المحلى) لـ ابن حزم، فإنه من أضر الكتب على طالب العلم المبتدئ، مع ما فيه من الفوائد والمسائل الفقهية؛ لأنه كتاب يحتاج إلى شخص ينقي فكر ابن حزم، ويأخذ من ابن حزم قوة اتباعه للدليل ثم يعطيه لطالب العلم خالصاً من الشوائب.