[رحلتي مع علم الحديث]
لما أردت أن أقرأ في علم الحديث لم أكن أعرف إطلاقاً اسم كتاب من كتب المصطلح، فبدأت أذهب إلى المكتبات أبحث في الأرفف عن أي كتب في الحديث، فأول كتاب تناولته -وهو الذي فتح عيني- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني، فأخذت هذا الكتاب، وبدأت أعرف أن هناك أحاديث مكذوبة، وبدأ هذا الكتاب يعكر علي المتعة العظيمة التي كنت أعيشها مع الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، لقد كنت أذهب إلى خطبة الجمعة متعجلاً في الأسبوع كله، أتمتع بالإلقاءات والأحاديث، ولكن اكتشفت فيما بعد أن الشيخ رحمه الله كأنه كان يحضر خطبة الجمعة من الفوائد المجموعة، من كثرة الأحاديث الموجودة فيه.
فأول حديث وقفت عليه في الكتاب وسمعته من الشيخ عبد الحميد رحمه الله كان حديث: (إن الله يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـ أبي بكر خاصة) كان الشيخ -رحمه الله- له درس بعد صلاة المغرب، وكان الناس يأتون يقبلون يده بكثرة، فما استطاع أن يمنعهم، فصار يتركها، يجلس على الكرسي ويمد يده، فمن مقبل ومن مصافح، ونحو ذلك.
فأنا وقفت في الطابور من أجل أن أنتظر دوري في السلام فسلمت عليه، وهمست في أذنه، وقلت: يا شيخ! هناك حديث قرأته لـ ابن القيم رحمه الله قال فيه: الحديث مكذوب وموضوع، وهو حديث كذا وكذا، قال لي: لا، هذا الحديث صحيح.
فما راجعته.
لكن هذا الكتاب فتح عيني على أن هناك أحاديث موضوعة ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث نسمعها من الواعظين ومن هم في نظرنا من العلماء؛ لأنا لم نكن نفرق آنذاك بين العالم والواعظ، فوجدت كثيراً من الأحاديث التي يحتج بها هؤلاء موجودة ضمن هذه المجموعة، فشدني هذا أكثر إلى ضرورة دراسة علم الحديث؛ حتى أميز بين الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة والمنكرة والشاذة.
وبعد اقتناء هذا الكتاب صار عندي قناعة كاملة في ضرورة دراسة هذا العلم الشريف، وبينما أنا أطوف أيضاً على الكتب وجدت أول مائة حديث من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ الألباني، لما تناولت السلسلة الضعيفة ووجدت أن الشيخ كان حريصاً على أن يحقق أشهر الأحاديث على ألسنة الناس، فأصبت بشيء من الإحباط، وظننت أنه لا يوجد حديث صحيح؛ من كثرة الأحاديث المشهورة على ألسنتنا التي أوردها الشيخ في السلسلة الضعيفة.
فبدأت مع الشيخ المطيعي رحمة الله عليه أفهم لأول مرة المصطلحات التي كان يقولها عن الإسناد وأنا لا أفهمها، سألته عن كتب أستعين بها، فدلني على كتاب اسمه (احتراز السنة في تبسيط علوم الحديث)، فأخذت هذا الكتاب، ومن خلال حواشي الكتاب عرفت كتب الفن التي ينقل منها، مثل: تدريب الراوي، وفتح المغيث، توضيح الأفكار، وغيرها من الكتب التي بدأت أنقب عنها.
المهم: وصلت إلى المائة الأولى من السلسلة الضعيفة، ووجدت أن الشيخ الألباني له أحكام مختلفة على الحديث، فمرة يقول: باطل، ومرة يقول: موضوع، ومرة يقول: منكر شاذ ضعيف معل، فسألت نفسي: هل هذه الألفاظ كلها لها معنى واحد أم لها معانٍ مختلفة، أو أن الإنسان عنده الحرية أن يعبر بأي لفظ من هذه الألفاظ على أي حديث؟ فبدأت دراسة السلسلة الضعيفة، وكانت من أمتع الدراسات التي درستها ونفعني الله عز وجل بها كثيراً في تمييز الأحاديث.
أول حديث حققت معناه (المنكر)، والمنكر في الاصطلاح: هو مخالفة الضعيف للصدوق، فحديث الصدوق يكون مقبولاً، وحديث الضعيف يكون منكراً، لكن أجد أحياناً أن الثقة إذا خالف فإنه يكون منكراً أيضاً، فبدأت بهذه الطريقة، حتى استكملت الخمسة الأجزاء الأولى -التي هي الخمسمائة حديث الأولى- مع بقية السلسلة، وبدأت أنظر في كل حديث قال فيه الشيخ الألباني: منكر، هل هناك سمة معينة في كل حديث قال فيه: منكر، بحيث أعرف حد المنكر أم لا؟ فقرأت كل الأحاديث التي قال فيها: منكر كاملةً، فلم أجد شيئاً أستطيع أن أفسره آنذاك، لكن صار عندي رسم للمنكر ونفيه، أول ما أرى هذا الحديث أعرف أنه منكر، ولا يقال عليه مثلاً: باطل أو موضوع أو نحو ذلك.
هناك فرق كبير جداً ما بين المحدث والرجل العالم بالاصطلاح، المحدث نادر الوجود، إنما الذي يعرف الاصطلاح كثيرون، فأنت ربما وجدت رجلاً لم تقف له على تحقيق حديث، لكن له فهم في مصطلحات أهل الحديث، وهذا ليس صعباً، لكن هل هو محدث بمعنى: هل له ملكة يستطيع بها تمييز الحديث الصحيح من الضعيف؟ هناك فرق كبير ما بين الشيخ الألباني -كرجل محدث، اختلط الحديث بشحمه ولحمه على مدار ستين سنة- وبين كثير من الفقهاء الذين صنف بعضهم رسائل في مصطلح الحديث.
أبو حاتم الرازي ألقي عليه مرة حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين.
مع العلم أن عمرو بن الحصين كذاب، والأعمش كان مدلساً، فمن المحتمل أن يكون الأعمش دلسه.
يقول أبو حاتم الرازي: إنه دخل بعد عدة سنوات بلداً من البلدان لطلب الحديث، فإذا به يجد هذا الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر، فصدقت فراسة أبي حاتم الرازي، التي يسميها العلماء الملكة، وهذه الملكة لا تتأتى إلا بكثرة الممارسة، وهذه الملكة ليست مقصورة على علم الحديث فقط، بل كل الصناعات خاضعة للملكة من ذلك: كنت أقف مع رجل ميكانيكي سيارات، وكان أمامنا طريق سريع، فمرت سيارة مسرعة ولها صوت مزعج، صاحبي الميكانيكي قال لي: هذه السيارة التي مرت ولها صوت مرتفع ليست مشحمة، والعجيب أن صاحب السيارة كان آت إلى هذا الميكانيكي، فأول ما رآه الميكانيكي قال له: السيارة تحتاج إلى شحم.
فقال له: أنت تعلم الغيب! فقال له: أنا بمجرد سماعي للصوت أعرف العلة أين، فعندما فحص السيارة وجد فعلاً أنه ليس فيها شحم.
فهذا الميكانيكي صبي له عشر سنين استطاع أن يعرف خلل السيارة سريعاً، وما ذلك إلا بسبب الممارسة المستمرة للعمل.
فالمسألة ليست مقصورة على علم الحديث، أن يقال: إن علم الحديث هو الذي يحتاج إلى ملكة فقط، بل كل العلوم، والإنسان تزداد خبرته في هذا العلم مع طول الوقت وبالتالي يحصل هذه الملكة.
لذلك هناك فرق بين المحدث والمتكلم في المصطلح، التكلم في المصطلح سهل جداً، أنا قد أقرأ قواعد اللغة العربية وأتكلم وأقول: هذا مرفوع وهذا منصوب وهذا مجرور، لكن متى يظهر علم العالم؟ يقول الشافعي رحمه الله: إنما العالم الذي يعرف الاختلاف، ليس العالم الذي يعرف الاتفاق أن يقال: أجمعوا على كذا، إنما العالم هو الذي يعلم الراجح من اختلافه، فيقال: أهل الكوفة قولهم كذا، وأهل البصرة قولهم كذا، والراجح كذا، فالعلم في الحقيقة هو علم الخلاف.
ومن مسائل علم الحديث: التفريق بين الباطل والموضوع، حيث أنهما لا يحتج بهما، لكن علماء الحديث جعلوا جل حكمهم على الموضوع إذا كذبه أحد الرواة، فإذا كان هناك كذاب في السند فإنهم يقولون عليه: موضوع، وإذا كان في الحديث رجل صدوق، لكنه سيء الحفظ يقولون: باطل، وهذه مسألة اصطلاحية، ولا مانع أن تجد أحد العلماء يضع هذه التسمية مكان تلك.
فمثلاً: حديث: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) كان شريك بن عبد الله النخعي رجلاً مداحاً، يجلس في المسجد يملي على الطلبة، فقال مرة: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فدخل ثابت بن موسى الزاهد من الباب -وسمي الزاهد لزهده وعبادته وورعه- فعندما رآه شريك أحب أن يرحب به، فقال له: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) أراد أن يداعبه، فظن ثابت بغفلته أن هذا هو الحديث، فخرج ثابت بن موسى الزاهد من المسجد يقول: حدثني شريك قال: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) فهذا الحديث دخل على ثابت لغفلته، ما كذبه ولا افتراه، فنحن عندما نأتي نحكم على هذا الحديث نقول: هذا باطل، لا نقل: موضوع؛ لأنه ما كذبه، ومع ذلك هناك من العلماء من يقول: هذا الحديث موضوع، كـ العراقي في الألفية يقول: والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعضٌ وضعا كلام بعض الحكما في المسند ومنه نوع وضعه لم يقصد نحو حديث ثابت (من كثرت صلاته) الحديث وهلة سرت يريد أن يبين أن هناك بعض الواضعين الذين وضعوا الأحاديث وتعمدوا الكذب، وهناك نوع آخر وضعه لم يحفظ وهو المغفل.
وحديث ثابت قد خفي أمره على القضاعي، فأورد هذا الحديث في مسند الشهاب وقواه بخمس طرق، لفق الكذابون له أسانيد من عندهم، فلم يفطن القضاعي لهذا، وقوى الحديث بهذه الطرق.
دخل الكسائي على هارون الرشيد، وكان هارون الرشيد متكئاً، فلما دخل الكسائي عليه؛ قال له هارون: اجلس.
قال: بل أقعد يا أمير المؤمنين.
أي: لا تقل لي: اجلس، ولكن قل لي: اقعد، فقال هارون: فما الفرق بينهما؟ قال له: القعود يكون من وقوف، والجلوس يكون من اتكاء، كما في الحديث: (وكان متكئاً فجلس) ومع ذلك فإن العرب تضع الجلوس للقيام، لكن ليس هذا هو الغالب.
فالحقيقة: أن سلسلة الأحاديث الضعيفة قضيت معها نحو سنتين من عمري أتأمل وأقرأ وأعيد القراءة مرة وا