[الاستدلال بقوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) على منع التعدد]
تأتي الجريمة الثانية في حق المعنى بنزع السياق، يقول لك: إن الله تبارك وتعالى قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:١٢٩] يا أخي! خذ الكلام بكامله في السياق واقرأ قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:١٢٨ - ١٢٩].
فلو نظرت إلى السياق للفت نظرك في الآية الأولى: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا)، وللفت نظرك في الآية الثانية (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) ذكر الإحسان في الآية الأولى والإصلاح في الآية الثانية، وذكر التقوى معهما.
وأي بيت فيه من المشاكل ما لا يستطيع الرجل، ولا تستطيع المرأة الجهر بها، فقد تكون المشاكل متعلقة بأمور تخص المأكل والمشرب أو غير ذلك من الأمور التي يمكن مناقشتها والإفصاح عنها، ولكن في بعض الأحيان يكون الموضوع أعمق من ذلك، لكنه محرج، لا يستطيع الرجل ولا المرأة الإفصاح عنه، والله تبارك وتعالى ذكر في هذه الآية: (وَإِنِ امْرَأَةٌ)؛ لأن بعض النساء يقلن: إن الله سبحانه وتعالى جعل للرجل سيطرة على المرأة، فإذا نشزت جاز له أن يهجر ويضرب، لكن افترض أن الرجل نشز، فماذا تصنع المرأة؟ نزلت هذه الآية لبيان ذلك، فقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:١٢٨] الجملة هذه فيها (لا) النافية، وفيها نكرة وهو قوله تعالى: (صلحاً)، والنكرة: هي الاسم المعرى من الألف واللام، وحين تدخل الألف واللام على الاسم يصير معرفة، فكلمة (الصلح) معرفة، وبحذف الألف واللام تصير نكرة.
وقال العلماء: النكرة في سياق النفي تقتضي العموم، يعني: (لا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا) أي صلحٍ كان، هذا معنى الآية، المهم أن هذا الصلح يرضي الطرفين، وتمضي الحياة.
فإذا أراد رجل أن يطلق، فإن الله تبارك وتعالى وجهه إلى أن يصطلح مع زوجته على أي شيء، لو أنها تركت بعض ما لها من الحقوق لا ضير أن يمسكها.
وإذا عزم رجل على تطليق زوجته، فقالت له: لا تطلقني وأمسكني، ولا تقسم لي.
أي: لا تبت معي، وهي بذلك تتنازل عن حقها في الفراش، فهل يجوز؟ نعم يجوز، طالما أنها هي التي أسقطت حقها، والمرء حر في إسقاط حقه، إنما لا يجوز للرجل أن لا يوصل حقها إليها، يعني: رجل يمسك بامرأةٍ ولا يعفها في الفراش هذا لا يجوز، وهو آثم بذلك ومرتكب لذنب عظيم، لكن إذا قالت المرأة نفسها: أنا لا أريد ذلك، وأسقطه عنك؛ جاز لهما الاصطلاح على ذلك.
وبرهان ذلك من السنة: أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها -زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما كبرت وخافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادت أن تحتفظ بشرف التسمي بأم المؤمنين؛ تنازلت عن ليلتها لـ عائشة رضي الله عنها، فصار لـ عائشة ليلتان ولسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة واحدة، فهي التي تنازلت عن حقها في هذه الحالة.
ولأن الطلاق بيد من أخذ بالساق -وهو الرجل- ولأن المرأة قد تكون ظروفها صعبة جداً، إذا طلقت تضيع، فلا جناح عليهما أن يصلح بينهما صلحاً، لكن هذا فيه غبن للمرأة، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:١٢٨] على أي وضع، أفضل من أن تشرد المرأة، لو أن المرأة ظلت مع الرجل، وقد فقدت بعض حقوقها أفضل لها من أن تطلق بالكلية، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:١٢٨]، كل واحد شحيح بالاعتراف بالخطأ لا يريد أن يقول: أنا مخطئ جاءوا ليتصالحوا وكل واحد مصر أنه هو المحق، ويشح بالاعتراف بالخطأ، فربنا سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} [النساء:١٢٨]، فجعل ضم المرأة إلى الرجل مرةً أخرى من الإحسان، وليس من الإحسان أن تظلمها فاتق الله.
إذا أحسنت لا ترد عليها بالسيئة؛ لأن هذا ضد الإحسان، قال الله تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠] أي: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه، ثم قال تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:١٢٩]، هنا جاء المعنى، فالآية الأولى بينت حال رجل بينه وبين امرأته خلاف، ويريد أن يطلقها، فيقال له: أمسكها ولو على مضض، من قبيل الإحسان.
أما لو كان الرجل متزوجاً بامرأةٍ أخرى، وصار قلبه بالنسبة للمرأة التي حدث بينه وبينها نشوز ليس على ما يرام، فإذا تحول قلب الرجل عن المرأة لا يعطيها حقها في الفراش، هذا معنى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:١٢٩] أي: بالمحبة القلبية والفراش؛ لأن هذا فرع على عمل القلب، أليس القلب مَلِك البدن؟ فالإنسان إذا كره بقلبه لا يمكن للجوارح أن تأتي بخلاف ما في القلب، ولذلك إذا تفتت عزم القلب ضاع عمل الجوارح، فأحياناً يأتي خبر للإنسان وهو متماسك فينزل عليه كالصاعقة، فعندما يسمعه يسقط على الأرض صريعاً ما الذي جرى؟ فهذا القلب لما انفت عزمه خانته قدماه؛ لأن قوة العضو إنما هي من قوة القلب والجنان، لذلك ترى الرجل إذا انفت عزم قلبه لا يستطيع أن يستخدم جارحته أبداً.
ذارت مرة قال أحدهم لي: إنه شعر بتعب، فذهب يكشف عند الطبيب، فقال له: عندك مرض القلب، فلما سمع ذلك -وكان قد صعد السلم على قدميه- نزل مستنداً على غيره، وقال: سأكشف عند أخصائي، وعندما كشف عليه قال له: أنت عند من كشفت؟ قال له: عند الطبيب فلان.
قال له: إن قلبك أقوى من قلب الذي كشف عليك، فخرج الرجل من عند الأخصائي على قدميه ما الذي جرى له؟ رجله هي رجله، ما الذي جرى له؟ لما انفت عزم القلب ذهبت قوة الجارحة.
فالرجل إذا كان يكره المرأة فمن الطبيعي أن لا يميل إليها، ولا يستطيع أن يأتيها في الفراش، قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:١٢٩]، إذاً: عدم الاستطاعة جاءت بعد مشكلة {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:١٢٨].
إذاً: عدم الاستطاعة المقصود بها هنا العجز القلبي، وشيء طبيعي جداً أن الإنسان لا يسأل عن هذا العجز القلبي؛ لأن قلبه ليس بيده، إنما القلب بيد الرحمن، كما قال عليه الصلاة والسلام: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء)، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر: وهو أن قلبك ليس بيدك، رغم أنه هو ملك بدنك.
لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، لو كان قلبك بيدك ما كفرت طرفة عين، ولا كرهت إنساناً، ولا غُلبت على كرهه، لكن ليس بيدك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقسم يقول: (لا، ومقلب القلوب!) إشارةً إلى أن تقليب القلوب آية من آيات الله عز وجل.
إذاً: الآية جاءت في معرض سياق طويل، فنزع الآية من هذا السياق جريمة في حق المعنى، وتضليل لعباد الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.