للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم]

إن الناظر في جيل الصحابة الأوائل يرى أن أعظم ما يميزهم المحبة العظيمة التي غرست فيهم الاتباع، اتباع أولئك الصحابة وتعظيمهم لكلام النبي عليه الصلاة والسلام.

جاء في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، وكان دار أبي أيوب على طابقين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي أيوب: (السفل أرفق بنا -أي اجعلنا في أسفل الدار- إنه يغشاني أصحابي فالسفل أرفق بنا) وكان أبو أيوب في الطابق العلوي، وذات ليلة وهو يمشي في الليل فزع، فقال: أنا أمشي على سقف يعلو النبي صلى الله عليه وسلم!! وانكمش هو وأهل داره في زاوية حتى الصباح، استعظم أن يمشي على السطح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تحته، قال: (وانكسر حب لنا)، هذه الزيادة ليست في صحيح مسلم، إنما في نفس الحديث عند البيهقي في باب النبوة وغيره.

قال: (وانكسر حبٌّ لنا -الحب: هو الجرة العظيمة- قال: فجففت الماء بلحافي، اللحاف الذي يتغطى به هو وامرأته والله ما لنا غيره، خشية أن تسقط قطرة ماء على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح الصباح قال: يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها.

فصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى).

حتى إنه لما كان يرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام فيأكل منه، فيرجع إليهم ما تبقى منه فيأكلون، فيسأل أبو أيوب: أين مواضع يده؟ وإذا شرب يقول: أين موضع فمه من الإناء؟ فيتحرى مواضع فمه ويده صلى الله عليه وسلم فيأكل من الموضع الذي أكل، وكذلك يتحرى في الشرب موضع فمه صلى الله عليه وسلم في الإناء فيشرب هو وامرأته منه، فأرسل له يوماً بصلاً، فلم يأكل منه النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، فلما صعد الرجل بالطعام إلى أبي أيوب ورأى البصل كما هو فزع ونزل وقال: (يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أُناجَى فأكره ذلك) -يعني يكره أن يؤذي الملك، فماذا قال أبو أيوب؟ رغم أن البصل حلال، والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينهه عن ذلك، قال: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره، وامتنع من أكل البصل.

كذلك في الصحيح أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال لأبنائه يوماً، وأبناؤه هم: عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم، وحمزة، وبلال، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وفي لفظ: (إذا استأذنت أمة أحدكم أن تخرج إلى المسجد فلا يمنعها).

فقال أحد أبنائه -وهو بلال: والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً! الدغل: جمعه أدغال، وهو المكان كثير الشجر، كأنه يقول: إن بعض النساء قد يتخذن من الخروج إلى المسجد ذريعة فيقضين مآربهن، فيقول: لنمنعهن حتى لا يتخذنه دغلاً وحجة، يعني: -كما لو دخل رجل في الأدغال وراء شجرة أو نحو ذلك- فحصبه عبد الله بن عمر بحصيات، وقال له: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وتعارضه! والله لا رأيتك أبداً، فيذكرون أنه ما دخل عليه حتى مات.

هذا لأن ابن عبد الله بن عمر اعترض على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في اعتراضه سوء أدب من وجهة نظر والده، بغض النظر عن أنه متأول، ولا يقصد أن يرد برأيه الحديث، وإنما كان عنده علة جعلته يتلفظ بهذا القول، لكنه كان قولاً فجاً في نظر عبد الله بن عمر، فلم يتحمل منه هذا.