للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غلبة أمر الله في قصة أصحاب الأخدود]

وهذا المعنى أيضاً يظهر بجلاء في قصة أصحاب الأخدود، وهي قصة رائعة، وفيها معان دفاقة كثيرة، إن الرجل لا يسود إلا إذا احترم رعيته، ومن عوامل الخذلان لأي حاكم في الدنيا أنه يحاصر الرعية، ولا يقيم لهم وزناً، ويجعلهم من الهمل، هذه من علامات الخذلان، لكن إذا عظمهم عظم في قلوبهم، وصاروا يحترمونه ولا يقدمون أحداً عليه، وانظر إلى عمر، ملك الدنيا، وما امتعض صحابي قط من تصرفاته، فتجده يضرب أبا هريرة ولا يغضب، ويضرب سعداً ولا يغضب، ويضرب أبا ذر ولا يغضب؛ لأنه كان يفعل ذلك لله ليس لحظ النفس، حتى لما عزل سعد بن أبي وقاص لم يغضب سعد؛ لأنه كان يعلم مقصد عمر.

فبقدر ما يكون في قلبك من الإخلاص بقدر ما يميزك الله عز وجل بين الناس.

وقصة أصحاب الأخدود هي كما في صحيح مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلام نجيب أعلمه السحر، فإني أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلمه، فجيء له بغلام نجيب).

قارن هذه القصة واربطها بقوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:٢١] لتعلم ونحن في مرحلة الاستضعاف أن النصر قريب لكن بشرط، (فكان هذا الغلام يخرج من بيته إلى بيت الساحر، وكان إذا مر مر بصومعة راهب، فعرج الغلام يوماً على صومعة الراهب فدخل، وسمع كلامه فأعجبه)، فعندما يسمع كلام الساحر، ثم يسمع كلام الله لا بد أن يجد فرقاً، (فصار يتأخر عند الراهب، فيتأخر في الرجوع إلى بيته إذا كان راجعاً، أو يتأخر في الذهاب إلى الساحر إذا كان ذاهباً، فكان هؤلاء يضربونه على التأخير، وهذا يضربه أيضاً على التأخير، فشكى ذلك إلى الراهب فقال له: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر، ومضى زمن، حتى جاء يوم واعترض طريق الناس دابة، فقال الغلام: اليوم أعلم أأمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر، فأمسك حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فاقتل هذه الدابة، ثم رماها بالحجر فقتلها.

تحدث الناس عن الغلام وذاع صيته، فدخل على الراهب، فقال: أي بني إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ) هذا ما أراده الراهب، ولكن حدث ما أراده الله، (وكان الغلام يشفي من سائر الأمراض، ويبرئ الأكمه والأبرص، وكان يجالس الملك رجل، كان قد عمي، فلما سمع بمهارة الغلام، جمع له هدايا عظيمة، وذهب وقال له: ما هناك لك أجمع -أي: كل هذه الهدايا لك- إن أنت شفيتني، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته وشفاك، فآمن به جليس الملك فرد الله عليه بصره، فدخل الجليس على الملك بلا عكاز وبلا مرشد، فقال الملك: بلغ من سحر الغلام أنه شفاك؟ قال: إنما شفاني الله تعالى، فقال له الملك: أولك رب غيري؟ فقال له الجليس: الله ربي وربك ورب العالمين، فما زال يعذبه حتى دل على الغلام.

وجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني بلغ من سحرك ما أرى؟ تبرئ الأكمه والأبرص وتداوي الناس من سائر الأدواء، فقال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فلا زال يعذبه حتى دل على الراهب) مع أن الراهب أوصى الغلام: إن ابتليت فلا تدل عليَّ، لكن غلب أمر الله عز وجل، ودل الغلام على الراهب (فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، قال: لا.

فشقه بالمنشار نصفين، قال صلى الله عليه وسلم: حتى سقط شقاه وهو صابر، وجيء بالجليس وقيل له: ارجع عن دينك، فقال: لا.

فقتله).