[تطبيق الصحابة لنصوص الكتاب والسنة دون جدال]
إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن هذه الأمة تشهد صحوة إسلامية أثرية، ومعنى أثرية: أي أنها تنزع بجذورها إلى الجذور الأولى للسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم جميعاً.
وبلدنا هذا -مصر- أحد البلاد التي تشهد هذه الصحوة المباركة، وكما حدثني خلق كثير من بلاد كثيرة، وهم أناس لهم وزنهم الفكري: أن الله تبارك وتعالى لو أحيا هذا البلد؛ لانجرَّت وراءه كل البلاد الإسلامية وغيرها، ولذلك تجد أن المؤامرات والدسائس على هذا البلد أشد بكثير جداً من أي بلد آخر، حتى أن حجم الضرب الذي تشهده الحركة الإسلامية بلغ حداً عجيباً جداً، ولولا أن الله تبارك وتعالى أذن بحياة هذا الجسد لمات من كثرة الضربات التي تتوالى على رأسه.
هذه الصحوة الإسلامية المباركة إن شاء الله تعالى يراد لها أن ترجع إلى الجذور الأولى، وهذا إنما يكون بمزيد من العلم، وهذا التخبط الفكري الذي يشهده المسلمون الآن سببه الجهلُ وقلةُ العلم، حتى أن بعض من نظنهم من الأخيار -هكذا ظاهرهم والله حسيبهم- وقد ظننته يأمر بناته بالحجاب قال لي: أنا لا أريد أن أجبرها، أنا أريدها أن ترتدي هذا الحجاب وهي مقتنعة.
إن هذه السفسطة التي عشنا فيها وما زالوا حتى الآن يعرضونها بقضهم وقضيضهم، قد عرضت أصول الإسلام للجدل.
إذا قال الله تبارك وتعالى ورسوله أمراً؛ لا يجوز للمسلم أن يجادل فيه، هل يمكن أن يقال: أنا أترك ابنتي حتى تلبس الحجاب عن قناعة؟ هب أنها لم تقتنع، تكره حكم الله أيضاً! ثم ما وزنها أصلاً وما وزن عقلها حتى يمكن أن يقال: اقتنعت أم لا؟ إذاً سيكون رأي البنت هو المقدم، وحكم الله تبارك وتعالى في آخر القائمة؛ لأنها لم تقتنع بهذا.
هذا مما ورثناه، وما زال بعض المسلمين يعاني هذه السفسطة التي ورثها بدعوى الحرية العقلية، فعرضوا أصول الإسلام للجدل.
لو نظرت أنت إلى أسلافك، وكيف أن الواحد منهم إذا جاءه أمر اجتهد في أن يلتزم به حتى وإن أخطأ، المهم أن يلتزم من وجهة نظره؛ وإذا تبين له الخطأ، يستمر فيه، إنما يرجع.
انظر إلى هذا الحديث الصحيح: لما أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:١٨٧]، كان بعض الصحابة يربط في يديه خيطاً أبيض وخيطاً أسود، ويأكل ويشرب حتى يظهر له الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ لكن هذا ليس هو المقصود من الآية، المقصود بالخيط الأبيض من الخيط الأسود هو: شعاع النور والظلمة.
فهذا الصحابي عندما وصله النص وفهمه؛ بادر إلى العمل به على مقتضى فهمه، ولم يتوقف حتى يقول: حتى ألقى رجلاً مجتهداً أو نحو ذلك.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزوجاته رضي الله عنهن: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) أي: التي ستموت بعدي منكن أطولكن يداً، فكن يقسن أيديهن، فكن يعتقدن أن التي يدها أطول من يد الأخرى هي التي ستموت عقب النبي عليه الصلاة والسلام.
وبرغم العقل الراجح الذي كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتمتعن به، ما فقهن إلى معنى الحديث إلا عندما توفيت زينت بنت جحش رضي الله عنها، فهي أول أزواج النبي عليه الصلاة والسلام موتاً بعده، وكانت قصيرةً، ومن لوازم القصر قصر كل الأعضاء، فلم تكن هي أطول نساء النبي صلى الله عليه وسلم يداً بهذا المعنى المتبادر، فلما توفيت زينب رضي الله عنها علمن المقصود من الحديث، وأن معنى قوله: (أطولكن يداً) أي: في الصدقة، وكانت زينب رضي الله عنها أكثر نساء النبي صلى الله عليه وسلم صدقة.
إذاً: مبادرة هذا الجيل للعمل بمفهوم الآيات والأحاديث كان يدل على عظم الإيمان في قلب أولئك.
لا تعرض قول النبي صلى الله عليه وسلم للجدل، لاسيما إن كنت تجادل عن غير بينة أو أصول، وإلا فتناظر العالِمَين على مقتضى الأصول المعروفة في سبيل الوصول إلى الحق فيه مصلحة ومفسدة، حتى لا يقال: إن المناظرة أو المناقشة منهي عنها بإطلاق لا، إن لم تكن عالماً بأصول المناظرة والمناقشة -أي: أصول ما تتكلم به- فاعلم أن هذا الكلام كله داخل في باب الجدل المقيت.
أما قول الله عز وجل: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] فالمقصود أنك إذا سمعت قولاً للنبي عليه الصلاة والسلام فتسلم به تسليماً، بحيث لا يترك حرجاً في القلب.
جاء في سنن الترمذي بسند صحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)، وهذا كان في أول الإسلام: أن أي إنسان يأكل أو يشرب شيئاً مسته النار يُحدث وضوءاً جديداً.
ثم نسخ هذا الحكم بعد ذلك، كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري وغيره: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار).
فـ أبو هريرة سمع الحديث الأول ولم يسمع النسخ، فصار يفتي بوجوب الوضوء على من أكل شيئاً مسته النار.
فدارت بينه وبين ابن عباس هذه المناظرة: قال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟ أي: لا يمكن أن آكل اللحم نيئاً، لا بد أن يُطبخ، وهذا مما أحله الله لي، فما هي العلة في إفساد الوضوء، فـ ابن عباس يلزم أبا هريرة بالجدل العقلي.
كان أبو هريرة معه نص، وابن عباس معه فهمه.
ولذلك استنكر أبو هريرة أشد الاستنكار على ابن عباس مثل هذا.
فلما قال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! أفلا نتوضأ من الحميم؟! يعني: ألا يجوز الوضوء بالماء الساخن والاستحمام بالماء الساخن، وهذا لا شك أن النار مسته، فكيف إذا توضأت بماء مسته النار هل أعيد الوضوء أيضاً؟! فأمسك أبو هريرة حفنة من الحصى وقال: أشهد بعدد هذا الحصى أنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)، يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال، اتهم معرفتك، اتهم فَهمك؛ لكن لا تتهم هذا الحديث.
هكذا كان توقيرهم! وكذلك سمع أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينهى المحرم عن التطيب.
ثم إن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله وإحرامه جميعاً) وهذا واضح أنه معارض لحديث أبي هريرة، فما وصل أبا هريرة هذا الحديث الذي حدثت به عائشة.
فقيل له في ذلك، فقال: (لأَن أطلى بالقار -الذي يطلى به الجربان - أحب إلي من أن أمس طيباً وأنا محرم).
أيها الإخوة! هناك فرق بين الذين قاتلوا على آيات القرآن الكريم وبين الذين ورثوا القرآن الكريم، وهناك فرق كبير بين الذي عانى وعرض لكل أنواع المهانة في سبيل تبليغ آية من آيات الله عز وجل وبين الذي ورث القرآن الكريم وراثة؛ الأول كالرجل المكافح الذي يكون ثروته من عرق جبينه وتعب الأيام والليالي، هذه الثروة غالية جداً على نفس الرجل؛ لأنه كونها بكل ذرة من كيانه، بخلاف الذي يرث، فإنه يمكن أن ينفق كل هذه الأموال الطائلة في أسبوع واحد، والتي ظل يجمعها والده عشرات السنوات، ولذلك قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:١٦٩] يفرط في آيات الله عز وجل ويحرفها لأجل الدينار والدرهم، ثم يقول: أنا سيغفر لي، فإذا تأملت قوله عز وجل: (ورثوا الكتاب) علمت أن هؤلاء لا يختلفون عن الذين نزلت عليهم التوراة.
فكذلك الصحابة رضوان الله عليهم وراء كل صحابي قصة طويلة دامية في سبيل الإسلام، فهؤلاء كان إحساسهم بالنص الشرعي بخلاف حال المسلمين الآن.