[حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع]
السؤال
هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده على صدره بعد القيام من الركوع على أساس أنه يعد من القيام؟
الجواب
مسألة القبض بعد القيام من الركوع مسألة اجتهادية.
فالذين أفتوا باستحباب وضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد القيام من الركوع إنما أخذوه من عموم بعض النصوص الشرعية التي وردت في وصف صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، كما في حديث وائل بن حجر وغيره: (أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في القيام وضع اليمنى على اليسرى) فقالوا: القيام لفظ عام يشمل كل القيام، يشمل القيام الأول والقيام الثاني، فمن فرق بين القيامين فعليه بالدليل، وإلا فنحن متمسكون بهذا العموم.
هذا فحوى ما أجاب به الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز عالم السعودية المبجل -رحمه الله تعالى- وعليه تقريباً معظم البغداديين من العلماء الأفاضل الذين يرون جواز بل استحباب الضم بعد القيام من الركوع.
أجاب المانعون وفي مقدمتهم الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته بأن هذا العموم لم يكن عليه عمل السلف الصالح، وجاء بالقاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم الذي نوصي كل مسلم باقتنائه والاطلاع عليه، وتدبره سطراً سطراً لأهميته في هذا العصر، وهو كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم".
ذكر في هذا الكتاب هذه القاعدة التي تقول: (إن العمل بأي جزئية من الدليل العام لم يكن عليه عمل السلف الصالح سبيل إلى الابتداع في الدين).
فأقول: ليس كلُّ عموم يُعمَل به، وإن كان السلف الصالح أعرض عنه، فهذا من أعظم القدح فيه.
فضرب -مثلاً- وقال: لا شك أنه لو دخل رجل إلى المسجد فوجد رجلاً يصلي تحية المسجد، وآخر يصلي تحية المسجد، وآخر يصلي تحية المسجد، وجد عشرةً -مثلاً- يصلون، قال: لماذا تصلون فرادى؟! لماذا لا نصلي هذه الشعيرة جماعة؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبع وعشرين)، فلم يقل: فرضاً ولا نفلاً، وإنما قال: (صلاة الجماعة)، فلماذا نصلي فرادى؟! فقاموا جميعاً وصلوا تحية المسجد جماعة، فهل هؤلاء مبتدعون أم لا؟ مبتدعون بلا شك مع أن الأدلة العامة تعضد فعلهم، وهم لم يخرجوا عن الشرع، بل أتوا بأدلة عامة تقضي باستحباب صلاة الجماعة مطلقاً، وتحية المسجد صلاة، فهي داخلة! قال: الجواب معروف: أن هذا لم يكن عليه عمل السلف الصالح، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان العمل ينهض به هذا العموم لبادر السلف الصالح إلى فعل هذا.
والذين نقلوا لنا أدق الحركات والجزئيات في صفة الصلاة، فنقلوا لنا حركة الإصبع، ونقلوا لنا أن أصابع القدم تكون متجهة في حالة السجود إلى القبلة، ونقلوا لنا أن الراكع يجب أن يكون ظهره متساوياً، بحيث لو وضعت قطرة ماء على الظهر لا تتحرك، ونقلوا لنا كيفية القبض بالكف على الركبة.
أفيغفلون هذا القبض الذي هو ظاهر جداً، على اعتبار أنه لو كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يوجد نص خاص في المسألة يقول: إن الضم في القيام الأول دون القيام الثاني، ويُترك هذا للعموم؟ هذا غير ممكن! ثم هناك مسألة أخرى وهي قوية جداً، وهي: أن هيئات الصلاة لا يصلح فيها الاجتهاد ولا الاستنباط، إنما هي توقيفية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فلا يجوز أن تستنبط هيئة بفهمك من النص، بل لا بد لكل هيئة من دليل قاطع.
فقالوا: اجتهاد مشايخنا من علماء الحجاز اجتهاد في فهم النصوص الشرعية، وهيئات الصلاة توقيفية تحتاج إلى أدلة خاصة تقوم بها.
فلذلك المسألة فيها -كما قلتُ- خفض ورفع.
لكن ماذا لو أنه لم يفعله؟ مثلاً: إن كنت أنا أنكر عدم مشروعية القبض، فهل هذا الإنكار يجعلني -مثلاً- لا أصلي خلف من يرى المشروعية، ولا أصافحه، ولا أسلم عليه لا، هو مقلد لأئمة مجتهدين علماء، وهؤلاء العلماء سواء أصابوا أم أخطئوا، فهذا بالنسبة إليك بمنزلة العامي مع المجتهد، فهؤلاء من تبعهم لا جناح عليه كما يقول الإمام الشافعي: قول المجتهد بالنسبة للعامي كالدليل بالنسبة للمجتهد.
انظروا إلى الكلام الجميل! أي: كما أنه لا يجوز للمجتهد أن يخالف الدليل، فلا يجوز للعامي أن يخالف قول المجتهد لماذا؟ لأن العامي سيخالف قول المجتهد بوجهين: إما بعلم الدليل المخالف، فلا يكون -كما قلنا- عامياً، وإما أن يكون أقل منه في العلم فلا يحل له أن يخالف قول العالم، وإلا كان متبعاً لهواه.
ولذلك العلماء يقولون: مذهب العامي مذهب مفتيه، أي رجل عامي من المسلمين أفتاه عالم بفتوى لا يجوز له أن يخالفها؛ بدعوى أن هناك عالم آخر أفتى بفتوى مضادة؛ لأننا سنقول له: اثبت لي أن القول الذي ذهبت إليه أرجح من القول الذي صرفته؟ ولن يستطيع بمستطيع حتى يلج الجمل في سم الخياط لماذا؟ لأنه من العوام، فَقَدْ فَقَدَ مَلَكَةَ التمييز والترجيح، فكيف له أن ينتقل من قول هذا المجتهد إلى قول مجتهد آخر إلا بداعي الهوى؟! فلذلك مثل هذه المسائل يكفينا فيها اختلافاً، وإن خاصمت أخاك لأجل مسألة فرعية بحيث أنك تهجره؛ فاعلم أن صرح الأخوة هش جداً بينك وبينه، ولو كان هذا الصرح قوياً لا يمكن أن يزول لا بهذه المسألة ولا بعشرين مسألة مثلها.
فمثل هذه المسائل نحن نبتعد عنها بمثل هذا النقاش.
والله أعلم.