[معنى قوله: (عدل في قضاؤك)]
حكم الله ماضٍ، وهذا يطمئن القلب: (ماضٍ فيَّ حكمك -أي: أنا لا أملك من أمر نفسي شيئاً فعله- عدل فيَّ قضاؤك) ففرق بين الحكم والقضاء، وهناك نفر من الناس يبغضون الله إلى الناس، فيقولون: إن الله عز وجل يظلم ومحض العدل عنده سبحانه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:١٠٧]، فالمؤمن قد يقلب عمله إلى سيء ويدخله النار، والفاسق من الممكن أن يدخله الجنة، وهذا صحيح في جملته، لكن لابد أن يكون هناك كسب من العبد أدى إلى النهاية، وإلا فنحن نقطع أن رب العالمين لا يسوي بين مَن عمل الصالحات وبين مَن عمل السيئات، من عمل صالحاً وأتى بالإيمان فنحن نجزم أنه من أهل الجنة، ومن تاب وأتى بالتوبة على أركانها وشرائطها وواجباتها فنحن نجزم بأن توبته مقبولة.
وقد جعل الله إبليس بدلاً من أن كان طاوس الملائكة -على قول من يقول بذلك وليس بصحيح- جعله مخلداً في النار، فيقولون: هكذا قضى الله عز وجل، سبحان الله! إذا كنت لا تأمن مكر ربك بمعنى: تعمل الصالحات فيقلبها عليك، فمتى يطمئن قلبك إلى الله؟ متى يتشجع المرء على عمل الصالحات إن كان الله عز وجل يقلب عمله الصالح (١٠٠%) إلى السيئ؟ هذا محال!! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥ - ٣٦] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:٢٨] هذا لا ينبغي ولا يليق، وإنما يرتكب العبد شيئاً لا يعلمه الناس فيكافئه الله بما في قلبه، هذا هو الفارق بين الأمرين، لا أن من عمل الصالحات وآمن بالله عز وجل أن الله يقلب ذلك عليه، لا يكون ذلك أبداً!! إن الذين يحتجون بهذا القول من أهل البدع إنما يحتجون بدليل صحيح لكن ليس فيه دلالة، أو بما لا يصح وإن كان فيه دلالة، إن الله تبارك وتعالى من أسمائه: العدل، فلا يسوي بين من أطاعه وعمل الصالحات من قلبه وبين من أظهر للناس العمل بالصالحات وليس في قلبه مقتضى لهذا العمل، هذا هو الفرق، وإلا كيف تحب ربك؟ وأضرب لك مثلاً -ولله المثل الأعلى- تخيل أن لك امرأة خائنة لا تأمن غوائلها، ومن الممكن أن تضع لك سماً في الأكل، هل ستأكل؟ أو من الممكن أن تذبحك وأنت نائم، أتنام؟ تخيل أن هذه المرأة خائنة، أو العكس هناك امرأة زوجها هكذا، فهل من الممكن أن تأمن وتطمئن.
فإذا كان الأمر كما يقولون فمن لهؤلاء العصاة الذين عصوا الله عز وجل وأرادوا أن يتوبوا ويرجعوا من قلوبهم فعلاً؟ من لهم إذا كانوا يصورون الله عز وجل كذلك؟ إن ربنا عز وجل أولى بالوفاء، ولذلك تهوي الأفئدة إليه؛ لأنه يغفر الزلة ويمسح الحوبة، وقد يخرج الرجل من جبّ المعاصي فيضعه في قمة الولاية؛ لأنه عبده، فالله تبارك وتعالى أولى بذلك، وهؤلاء هم الذين يحتجون بالقدر على المعاصي، وهم الذين أساءوا الظن بالله عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:٢٣] ليس الله كذلك، لكن من ظن أن الله كذلك عامله على مقتضى ظنه فأهلكه.
نسأل الله عز وجل أن يعافينا من سوء الظن به، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إذا اعتقد المرء أن قضاء الله عدل ازداد إيمانه؛ لأن الذين يسخطون على الله عز وجل يظنون أن الله ظلمهم، فإذا أصابته مصيبة قال: لماذا يا رب من دون كل هؤلاء اخترتني؟ أليس كثير من الناس يعترض على ربه بهذا؟ يسيء الظن بالله ويسخط عليه، ومن سخط فعليه السخط، فإذا اعتقدت أن الله عدل في قضائه وأصابتك مصيبة فقل: هذا بذنب! وأنا أستحق ذلك، بل الله لطف بي؛ لأنه لم يعجل لي وترك لي فرصة أن أتوب وأرجع.
وهناك من الناس من لا يرجع، {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٨٨]، لا يرجعون من تلقاء أنفسهم، فكلما أصابتك مصيبة قل: أنا أستحق ذلك، وقل: بل لطف بي ربي، ولو عجل لي ما تبت، كم من حسرات في بطون المقابر، كثير من الذين ماتوا كان الواحد منهم يتمنى أن يتوب، لكن أهلكته السين وسوف، وسأتوب وسأتوب فاعتقاد أن الله عز وجل عدل هو مقتضى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:٤٠]، رجل يبتلى بالوسوسة في أهله، وهذه ظاهرة بدأت أرى لها غباراً، يسيء الظن في زوجته مثلاً، ليس لأنه غيور، لكن لأنه خائن، إنه ابتلي على نحو ما فعل بالآخرين، لو قلب في صفحاته لوجد أنه خان أيضاً، ولم يكن نبيلاً، ولم يكن ذا عفة، ولم يكن محترماً، فابتلاه الله عز وجل بهذا، وهذه ليست غيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يحب الغيرة في غير ريبة) فإذا لم تر من امرأتك ما يدعو إلى ذلك، فلا توسوس وتقول: أنا غيور، هناك فرق، لكن العاقل الذي لا يكذب ولا يخدع نفسه لو فتش لوجد أن حياته تشتمل على خيانات، فنزع إطار الله عز وجل السكينة من قلبه خشية أن يخون أهله، والعكس أيضاً، والجزاء من جنس العمل.
وهذا عدل من الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢] فالخداع منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء؛ لأنه منه مجازاة فكان أحسن شيء، ومنهم لؤم؛ لأنهم يخدعون الذي لا يخدع فكان أقبح شيء، مثل المكر تماماً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠]، فمكره أحسن شيء، ومكرهم أقبح شيء؛ لأنه يمكر بالقوي الكبير، المتعالي العلي القدير، الخبير اللطيف، وإنما الله عز وجل رد عليهم مقتضى فعلهم؛ لذلك كان فعله أحسن شيء تبارك وتعالى.
وعندما تصيب الإنسان مصيبة يعلم أن الله لا يظلم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:٤٠] أفمثل هذا الرب العظيم يظلم؟ {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:٤٠] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:٤٤] والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: لا يظلم أي شيء، فـ (شيئاً) نكرة ومنفية، فاعتقاد أن الله حكم عدل يعينك على التوبة، وأن ترجع فتذم نفسك لا أن تلقي باللوم على ربك: (عدل فيَّ قضاؤك).