[التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد]
لما مرض أبو بكر الصديق سيد الموحدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الذي ملئ إلى مشاشه إيماناً وحكمة رضي الله عنه، دخلوا عليه وهو مريض فقالوا له: ألا نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني -كلام واضح جداً- قالوا: ألا ننظر لك في دواء؟ قال: إن الطبيب قال: إني أفعل ما أشاء، ليس هذا من أبي بكر الصديق دفعاً للعلاج وإلا فهو قد عُولج، لكن أراد أن ينبه إلى المعنى الذي نبه إليه إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو أن التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، وطالما أن العبد متعلق بالله تبارك وتعالى لا يرجو غيره إذاً هو في عافية وستر، كل شيء يكون عليه يحمد الله تبارك وتعالى له وبه، فما من محنة تكون على غيره إلا كانت في حقه منحة، ولذلك الله تبارك وتعالى لما أراد أن يعطي الجائزة للمتقين -والتقوى أصلها اعتماد القلب على الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا وأشار بيده إلى قلبه) - قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢]، هكذا بالجزم: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢].
ننظر في (يتقِ ويجعل) أفعال مضارعة تفيد التجدد والاستمرار، أي: كلما أحدثت تجديداً في تقواك كان في مقابله فرج، وإن اختلف الناس في تعريف الفرج، فبعض الناس يرى الفرج النعمة المطلقة، لكن ليس كذلك، بل أحياناً يكون الفرج في النقمة التي لا يراها العباد إلا نقمة بحتة، فمثلاً: انسحاب القائد في الوقت المناسب من أعظم أبواب النصر، مع أن الانسحاب عند بعضهم يعد من الهزيمة؛ لأن الانتصار عندهم أنك تكسب أرضاً.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢] انظر إلى الكلمة التي بعد هذه مباشرة: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٣] انظر إلى الكلام الجميل: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٣] فتكون فرحته طاغية؛ لأنه لم يحتسب.
أنت موظف كبير تأخذ ألف (جنيه) في الشهر، معروف كل شهر أنك تذهب إلى الخزينة لتقبض الألف، فهل أحسست بالفرح؟ لا؛ لأنك متوقع أنك كل شهر ستأخذ الألف (جنيه)، لكن جاءك خمسون (جنيهاً) علاوة أو أي شيء وأنت لا تحتسبها، فإن فرحتها في قلبك أعظم من الألف (جنيه)، لماذا؟ لأنك لم تحتسب، وكل شيء لا تحتسبه تكون الصدمة به قوية، إما فرح وإما ترح.
أنت تتوقع أن يضربك جارك على وجهك، لكن لا تتوقع أن يضربك ابنك على وجهك؛ لذلك لطمة ولدك لك تكون أعظم ألف مرة من ضرب كل الناس لك؛ لأنك ما توقعت، فالصدمة التي أخذتها بمجرد الضرب أعظم من الضرب نفسه.
لذلك لو وضعت عصابة -مثلاً- على عيني إنسان وأخذت تعذبه، فإنه لا يدري من أين يأتيه الضرب، من الأمام أو من الخلف أو من الجنب، أو من فوق أو من تحت لا يدري، فالرعب الذي يصيبه بعدم درايته أعظم من العذاب نفسه، لماذا؟ لأنه لا يحتسب ذلك العذاب، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٣] حتى يتمم له فرحته بالتقوى، ليس رزقاً عادياً وراتباً، إنما من حيث لا يحتسب ولا يتوقع، مكافأة من الله لهذا العبد التقي.
إذاً: يجب أن لا يلتفت ملك البدن إلى الأعراض -وملك البدن: هو القلب- ومن أعظم دلالات العجز أنك أيها الإنسان لا تملك قلبك، تملك أن ترفع يدك، تملك أن تمشي برجلك، لكن لا تملك أن تحب، ولا تملك أن تبغض، ولا أن تؤمن ولا أن تكفر، منتهى العجز، قلبك الذي يضخ وقوام حياتك به أنت لا تملكه؛ لذلك كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) لأنه لا يملكه، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء)، وكان أكثر يمينه يقول: (لا ومقلب القلوب).
وفي الحديث الصحيح عندما تجيء الفتن كأمواج البحار قال عليه الصلاة والسلام: (يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً) فلو كان قلبك بيدك ما كفرت طرفة عين، لكن ليس بيدك، إعلاناً بعجزك التام، إن أعظم ما في بدنك لا تملكه، هذا سر الإخلاص فيك؛ لذلك حتى تضمن ألا يدخل هذا الشرك إلى قلبك لا تلتفت إلى الأسباب من حيث هي أسباب، ولكن التفت إلى رب الأسباب.