[تواضع الشيخ الألباني وبساطته]
فلما كان في اليوم الثاني لم يأت الشيخ الألباني رحمه الله لصلاة الفجر، وكان يأتي من على بعد (خمسة عشر كيلو) ليصلي في هذا المسجد الذي كان يؤخر الصلاة نصف ساعة، وكان الشيخ الألباني يرى أن الصلاة تصلى قبل الوقت بحوالي نصف ساعة في بقية المساجد، فكان لأجل هذا يأتي من سكنه إلى هذا المسجد ليصلي فيه.
فالشيخ لم يأت لصلاة الفجر في هذا اليوم، فخشيت على ضياع هذا اليوم بلا استفادة، فقررت أن أذهب إليه، فاستشرت إخواني فأجمعوا ألا أذهب، وقالوا: الشيخ لا يفتح الباب لأحد ليس له موعد سابق.
وأنت بعد المكانة التي وصلت إليها لا يليق بك أن يقول لك: ارجع، فلا عليك أن يضيع عليك اليوم، ولكن لا تحرج نفسك، وكذلك رفيقي في هذه الرحلة، استشرته قلت: ما رأيك؟ قال: أنا رأيي أن تذهب، فقوى من عزمي أمران: الأمر الأول: أن صاحبي -الذي كان معي- أشار عليّ بالذهاب.
الأمر الثاني: أنني تذكرت وقتها قصة وقعت لـ ابن حبان مع شيخه ابن خزيمة، وذكرها ياقوت الحموي في مادة (بست) -المدينة التي كان منها ابن حبان البستي - فلما ذكر مدينة بست، وذكر من فيها من العلماء ذكر ابن حبان وذكر له هذه الواقعة مع شيخه كليب، أما ابن حبان رحمه الله كان بعثه لسفر لهما، وكان ابن حبان يكثر من سؤال ابن خزيمة ويخزيه، فسأله سؤالاً: فقال له ابن خزيمة: يا بارد! تنح عني -أي: اتركني- قال: فكتبها ابن حبان (يا بارد تنح عني)، فقالوا له: أي فائدة في هذه العبارة؟ قال: لا أدع لفظة تخرج من فم الشيخ إلا كتبتها.
فأنا قلت: ومالي لا أفعل مثلما فعل ابن حبان، وحتى لو قال لي: ارجع كما قال ابن خزيمة لـ ابن حبان لعددت هذه من فوائد هذا اليوم، وانطلقنا، وكانت المفاجأة أنه الذي فتح الباب واستقبلنا هاشاً باشاً، وجلسنا في حديقة منزله.
وأنا أوصي إخواننا المتصدرين للدعوة أن يتبسطوا في معاملة الغرباء، فأنت لا تعلم ظروف هذا الغريب، ولا تدري كيف وصل إليك.
فأجلسنا الشيخ وأصر على أن نفطر معه، فكان يأتي بالطعام، فكنت أريد أن أقوم بمساعدته، فكان يأبى عليَّ ويقول: اجلس.
فأقول: يا شيخ! هذا من سوء الأدب أنني أجلس وأنت الذي تخدمني.
فقال لي عبارة حفرت في ذهني قال: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) الامتثال: أي أن تمتثل أمره، أفضل من سلوكك الذي تظنه أدباً؛ لأن الطاعة والامتثال هنا هي الأدب بعينه.
ومرة شخص من الذين يقولون: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله في التشهد والأذان جرى بيني وبينه مناقشة، فقلت: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم الصحابة التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، وكل صيغ التشهد ليس فيها (سيدنا) أبداً، وهو سيدنا بلا شك، ولكن علينا أن نقف عند حدود ما علمنا، فقال: لا، الرسول كان لا يقول: سيدنا؛ لأنه كان متواضعاً.
فقلت له: حسناً الصحابة بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم هل ظلوا على سوء أدبهم معه صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لم يقولوا: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله؟! فأحد الذين معه قال: يا أخي! يقول الرسول: (لا تسيدوني في الصلاة)، وهذا حديث لا أصل له، وتصحيح الكلمة: (لا تسودوني) من السؤدد، فانظر إلى سيء الأدب، الذي ليس عنده رائحة الأدب بماذا يرد، يقول: هو قال: لا تسيدوني وأنا سأسيده.
إذاً هذا سيئ الأدب؛ لأنه إذا سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسيدوني في الصلاة) فلا يجوز لأحد أن يخالف أمره؛ لأنه إذا خالف أمره لم يدع له اعتباراً، فمسألة الوقوف عند الأمر والنهي هي التي تبين أن الإنسان يجعل للآمر الناهي اعتباراً عنده.
فكان يقول: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) وكان هذا اليوم هو أفضل أيام الرحلة على الإطلاق، ففيه تلطف الشيخ رحمه الله، ولقد كنا متعودين من الشيخ الألباني الصرامة العلمية في الكلام، ولا تحس أن فيه لطفاً ووداً، والأشرطة التي سجلتها في ترجمة الشيخ ناصر فيها أن الشيخ ضحك وتبسم، حتى إن الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله لما سمع الأشرطة في أول مرة قال لي: كنت أتمنى أن تحذف ضحكات الشيخ الألباني.
فقلت له: لماذا؟ قال: لأننا ما تعودنا هذا من الشيخ، ونحن متعودون أن نسمع كلاماً علمياً، وما تعودنا على مسألة الرقة ومسألة الضحك.