[حاجتنا إلى العلماء العاملين]
الإمام العَلَم الذي ربته امرأة، ولله در النساء: ولو كان النساء كمثل هذي لفُضِّلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخرٌ للهلال ثلاثة أئمة ملئوا الدنيا علماً وشهرة، ربّتهم أمهاتهم، وصدق فيهم قول القائل: وراء كل رجلٍ عظيم أم، ولا تقل: وراء كل رجل عظيم امرأة أبداً، ولكن قل: وراء كل رجلٍ عظيم أُم.
ثلاثة أئمة معروفون لديكم -وهناك أئمة آخرون ربتهم أمهاتهم- الإمام البخاري، والإمام الشافعي، والإمام العلم وهو سفيان بن سعيد الثوري، الإمام الكبير نحن نتدين بمحبة سفيان وأمثاله من العلماء الربانيين كـ سفيان الذي يقول: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل).
إذا أردت أن تحك رأسك حبذا يكون معك دليل، لكن يكون صحيحاً.
لاحظ الحض على اتباع السنة: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل)، ثم قال: (الحديث دَرَج والرأي مَرَج، فإذا كنت على الدَّرَج؛ احذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، وإذا كنت في المرج فسر حيث شئت).
كلام من ذهب! اتباع السنة كالدّرَج، وأنت تمشي على الدرج كن على حذر؛ لأنه لو فلتت رجلُك ستقع على رأسك مباشرةً، فعندما تنزل على الدّرج كن منتبهاً، إنما لو كنت تمشي في الصحراء اغمض عينيك وامش، فأينما تمشي فستجد مكاناً ماذا يقصد بهذا الكلام؟ يقول: إن من اتبع رأيه وهواه كأنما يمشي في مَرَج وفي سهولٍ واسعة، أي: فكأنك في مَرَج فسر حيث شئت، طالما أنك غير محكوم.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا سجن المؤمن) ما معنى سجن المؤمن؟ مسجون بالأوامر والنواهي، كالذي يدخل السجن بين الأوامر والنواهي الذي سُجن يفهم هذا الحديث جيداً، نريد أكل؟ ممنوع، نريد ماء ولنا مال في الأمانات ممنوع، أدخلوا لنا حلاوة، ممنوع، نريد أن نشم هواء ممنوع، كل شيء في السجن ممنوع!! فأنت كل ما تشتهيه تستطيع أن تفعله، ترغب أن تكون غنياً وممنوع من أن تضع مالك في البنوك، ترغب في أن تفرِّغ شهوتك وممنوع من الزنا، ترغب أن تفعل كذا وكذا وممنوع أن تفعل كذا وكذا فأنت مسجون أم لا؟ مسجون، الذي ترغب فيه لا تستطيع عمله، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (لم يستوف مؤمنٌ غضبه في الدنيا أبداً)، لا يستطيع أن يستوفيه يُظلم فيقول: أنا سوف أؤجل المحاكمة إلى يوم القيامة، فيكون مغتاظاً يريد أن يرد الصاع صاعين ولا يستطيع أن يستوفي غضبه أبداً، لماذا؟ لأجل يوم القيامة، محاكم الأرض فيها ملايين القضايا، وكثير من الناس أجلت مظالمهم إلى يوم القيامة، لو كل واحد ضُرب ضربةً واحدة وذهب إلى المحكمة أو ذهب إلى الشرطة، ما كانوا يرون النوم.
فالإيمان بيوم القيامة أسقط ملايين القضايا عن المحاكم، وكثير من الناس أجلوا المظالم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن) يعني: ليس كل ما تريده تفعله، مسجون.
والسجن هذا هو الدرج (فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك) ولله تبارك وتعالى في كل شيء في الدنيا حكم علمتها أو جهلتها؛ فقبل أن تقدم على أي قضية من القضايا ارفع -يا أخي- سماعة الهاتف واسأل العالم، سؤال العالم مجاناً؟ أتمنى أن يجد هذا الكلام صدى عند التجار الكبار والصغار، أيها التاجر! لك مستشار قانوني يأخذ مقابلاً مالياً وله نسبة، ولك محام يدافع عنك، وتعطيه راتباً مالياً طوال العام، وتعطيه حوافز مالية، فهل عندك مفت مجاناً؟ لن تدفع له راتباً مثل المستشار القانوني أو المحامي، ترفع سماعة الهاتف وتقول له: أنا أريد أن أعقد الصفقة الفلانية، هل هذا مشروعٌ أم لا؟ هل هذا حرام أم لا؟ لا يكلفك شيئاً.
نحن دولة مستهلكة مثل سائر العرب! أصحاب المصانع هم المتحكمون في البيوع، والأصل في البيوع الحل؛ لكن هؤلاء الذين يريدون أن يحققوا أعلى نسبة أرباح، ويريدون أن يضمنوا بضائعهم والأموال، قد يضعون شرطاً لا يحل في دينك، وحرامٌ عليك أن تفعله، هو كافر لا يهمه يهمه أن يضمن ماله ويكسب، أنت كرجل مستهلك تذهب فتقول: أنا أريد البضاعة الفلانية فيقول لك: أنا شرطي كذا وكذا وهذا رجل كافر لا يحكمه دين، وأنت عندما تحتاج البضاعة تعقد معه الصفقة وترتكب الحرام؛ لأن الذي وضع شروط الصفقة هو الرجل المصنِّع.
فالعالم مهم جداً جداً في هذا الزمن، لا أقول: للتجار فقط، بل للكل، فلو أن شخصاً عنده مرض قلب أو تصلُّب في الشرايين أو ذبحة صدرية أو ضغط دم أو ضيق في الصمام، أو أي مرض، فإنه يذهب إلى أي طبيب من أمراض القلب والدم، ويكون معه في حوار ساخن باستمرار: يا دكتور! أنا أحسست بكذا، هل هذا له علاقة بالشريان التاجي؟ هل له علاقة بالذبحة؟ يقول له: لا، أو يقول له: نعم، أو يقول له: لا تفعل وهكذا، مرة أخرى، وفي كل هذا يمتثل!.
فهل لما قسا قلبك أكان لك مستشار لأمراض القلب وضغط الهم؟ بمجرد أن تشعر بقسوة قلبك تتّصل به وتقول له: أنا أشعر بقسوة أقرأ القرآن ولا يهتز قلبي ولا يذرف دمعي، كم نحن مقصرون! الاستشارة مجانية، وأي واحد يرفع سماعة الهاتف ويتصل بعالم من العلماء ويطلب أجرة فليتقدم بشكوى فيه، وتجد العالم يفرغ من صدره ووقته، وأنت رجل تاجر والساعة عندك تساوي المال، وهو أيضاً ساعته أغلى من المال، لكنه كتب على نفسه: وقف للمسلمين.
فأوقف عمره وحياته لك، ومع ذلك لا ترفع له رأساً ونبذته نبذ النواة، ولم تستشره، لا في صفقة تجارية، أهذا حلال أم حرام؟ ولم تستشره حتى عند قسوة قلبك!.
روى أبو سعيد في تاريخ الرقة، عن عمرو بن ميمون قال: انطلقت مع أبي ميمون بن مهران إلى الحسن البصري، قال ميمون: يا بني! خذ بيدي إلى الحسن، فذهبوا إلى الحسن البصري وطرقوا الباب، فخرجت الجارية، فقالت: مَن؟ قال: ميمون بن مهران، فقالت الجارية: يا شيخ السوء! ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟ فبكى ميمون -وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز - بكى حتى علا نحيبه، فخرج الحسن البصري، فلما رآه اعتنقه، فقال ميمون: (يا أبا سعيد! آنست من قلبي غلظة، فاستلن لي) أي: قل لي شيئاً يلينه.
(أفأصوم له يا أبا سعيد؟)، يعني: أَيلين قلبي لو صمت؟ فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:٢٠٥ - ٢٠٧].
هناك خُلُق خلقه الله عز وجل فينا، وهو خُلُق التأسي، إذا أُصِبتَ بمصيبة وترى غيرك أُصِيب بمصيبة تخف المصيبة عليك.
من رأى مصيبة غيره هانت مصيبته عليه، كما تقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فعندما تكون هناك مصيبة عامة طاعون مثلاً، وكل بيت فيه فرد ميت، تجد أن المصيبة تخف عليك من كثرة الموت، لكن عندما تكون وحدك المصيبة تكبُر عليك.
وربنا عز وجل -في هذا الخلق أي: خلق التأسي- قال لنا: لا تظنن إذا دخلت النار فرأيت ملايين الخلق يصرخون من النار أن هذا يخِف عليك؛ لا، هذا فقط كان في الدنيا، قال تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩] لا يعني أنكم مشتركون في العذاب أن ذلك يخفف عليك حين تراه يصرُخ بجانبك، لا.
فانظر إلى الآيات سنين متعة، سنين قليل، {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:٢٠٦] الموت أو العذاب: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:٢٠٧].
كل حيّ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خبوت وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت أيها الساكر قل لي أين ذاك الجبروت ليت شعري أهمود ما أراه أم قنوت أين أملاكٌ لهم في كل أفق ملكوت زالت التيجان عنهم وخلت تلك البيوت أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت لا سميع يفقه القول ولا حيٌ يقوت عُمِرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت إنما الدنيا خيال باطل سوف يفوت ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت فأنت انظر ما مكان الدين في نفسك، ولا تخطون بقدمك خطوة إلا إذا سألت أهل العلم أيحل لي أن أخطو أم لا؟ فإذا قالوا لك: لا يحل، فقف.
الإمام البخاري رحمه الله، ذكر في ترجمة أبيه شيئاً واحداً تعجبون له، لما ذكر والده قال: (رأى حماد بن زيد) رآه بعينيه هذه منقبة كبيرة جداً، لو وجد لأبيه منقبةً أعلى من هذه لذكرها، لكن يا لِحظه!! رأى حماد بن زيد بعينيه!! وليس هذا فقط، قال: وصافح ابن المبارك بكلتا يديه) والدته دعت له، يسلم على ابن المبارك بيديه الاثنتين، هذه هي المنقبة الخاصة بوالد الإمام البخاري.
وابنه يريد أن يذكر له منقبة محترمة، فيذكر هذه المنقبة: (رأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه)، فمن تمام محبتك أن لا تخطو خطوةً إلى الأمام مهما قلت ودقت وكانت صغيرة في نظرك إلا وتسأل أهل العلم: ما حكم الله فيها؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها؟! فإذا فعلت ذلك كان ترجمةً صادقة لمحبتك، فالبدار البدار قبل الفوات! والعودة العود إلى حظيرة السنة!.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يقبضنا وإياكم على التوحيد الخالص، اللهم ارزقنا حبك، وحب من أحبك، وحب ما يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.