للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاغتراب والرحلة في طلب العلم]

الغربة نوعان: النوع الأول: الغربة عن الناس.

النوع الثاني: الغربة عن الوطن.

وكلاهما مقصود، أما الغربة عن الناس فهي تعني: أن طالب العلم ينبغي ألا يشغله شيء مما يشغل الناس؛ لأنه إذا لم ينصرف إلى العلم بكليته فلن يحصل ما أوهم نفسه أنه تفرغ له، وهي ما يسميها بعض العلماء: (العزلة الشعورية) بأن تكون في وسط الناس لكن تزايلهم بعملك، فطالب العلم ينبغي ألا ينخرط في سلك الناس؛ لأن اهتمامات الناس لا تعينه بشيء، إنما يقبل بكليته على العلم، فلا يرى من الدنيا إلا العلم.

أما النوع الثاني، وهو النوع الأعظم والأكبر والأشهر: وهو ما يسمى بالرحلة في طلب العلم، فيغترب الإنسان عن الوطن لتحصيل العلم، وهذا هو أشهر المعنيين بالنسبة للغربة، لكن هذا النوع يحتاج إلى همة أكبر من النوع الأول، ولذلك تجد من جلد هؤلاء العلماء في الرحلة، والصبر على الجوع والبرد، والصبر على المهانة والذل ما تقف أمامه مستعجباً مستغرباً!! فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما نفدت نفقته باليمن حين ذهب هو ويحيى بن معين وأحمد بن منصور الرمادي وجماعة من المحدثين إلى عبد الرزاق بن همام، وكان عبد الرزاق آنذاك هو عالم اليمن ومحدثها الكبير، فلما رحلوا إليه نفدت نفقة الإمام أحمد في اليمن، فقدَّم بعض أصحابه مواساة له، فأبى أن يأخذها -والمواساة أن يعطيه نفقة ونوعاً من المعونة- فقال له: خذها على سبيل العارية، وردها إذا رجعت إلى بغداد؛ فرفض أيضاً، فماذا فعل؟ أكرى نفسه عند بعض القوافل حتى لا يأخذ مواساة من أحد! وكان لا يأخذ الدقيق إلا من رجل واحد فقط، وكان إذا ذهب اقترض الدقيق يرده سريعاً، فذات مرة بعدما رجع من رحلة من هذه الرحلات، والإنسان حين يرجع من الرحلة يكون منهك القوى ومتعباً جداً، فذهب البيت فلم يجد دقيقاً، فذهب إلى صاحبه هذا فجاء بدقيق وأعطاه امرأته، فبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فاستغرب من ذلك وسألها؟! فقالت: وجدنا تنور صالح موقداً فخبزنا فيه، فأبى الإمام أحمد أن يأكل.

صالح هذا ابنه، فلماذا يأبى أن يأكل؟! لأن صالحاً قبل جائزة الخليفة المتوكل، عندما أرسل للإمام أحمد صرة فيها مال فردها، فلما أرسلها إلى ابنه صالح قبلها، فأغلق الإمام أحمد الباب بينه وبين ولده، وكان بينهما باب فأغلقه، مع أن قبول جوائز الأمراء لا شيء فيها، ومن الصحابة من كان يقبل ذلك، ومنهم الصحابي الورع العابد التقي عبد الله بن عمر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله!)، وقال عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح)، وكان إذا أتاه المال من الحجاج أخذه، فسُئل عن ذلك، فقال: (لست أطلب منهم شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله عز وجل) وهذا إنما أخذه من قول النبي عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه)، والمقصود أن لا تطمع، لكن لو جاءك المال من غير مسألة ولا استشراف فخذه.

فالجوائز قبلها الأئمة الكبار، كـ مالك، والشافعي وعلي بن المديني وابن معين، وقبلها أئمة كثيرون، ورفضها أئمة كثيرون أيضاً، فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف: والحق في المسألة أن القبول والرد لا بد أن تحتف به قرائن للقبول أو الرد، بمعنى إذا علمت أنك إذا أخذت جائزة الأمير طمع فيك وكسر عينيك فلا تأخذها؛ لأنه إنما يعطيك ليأخذ، والإنسان في مقابل الإحسان يذل، كما قال الحكيم الترمذي: (ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك) فإذا أردت أن تسترق إنساناً فأحسن إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على محبة الإحسان، كما قال تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠]، ومعنى الآية: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه.

فالإمام أحمد لما نهى ولده عن الأخذ؛ لأن الفتنة التي خرج منها الإمام أحمد كانت مدلهمة؛ فأبى أن يأخذ جائزة المتوكل، فلما أخذها ابنه صالح أغلق الباب بينهما، وأبى أن يأكل الإمام أحمد الخبز، فمن يحمل نفسه على هذا الورع؟ ومن يتحمل مثل هذا؟! فينبغي للطالب أن يتجلد في الرحلة لطلب العلم ويصبر؛ لأن الرحلة فيها ذل كبير، وأعظمها ذل الحاجة، لاسيما إذا نفدت النفقة، لكن صاحب الهمة العالية تجبر همتُه هذا الذل والحاجة.

ومن العلماء أصحاب الهمة العالية أحد النحويين وهو أبو نصر هارون بن موسى بن جندل النحوي، يقول: كنت أختلف إلى مجالس أبي علي القالي، وكان يملي في مسجد الزهراء بقرطبة -وكتابه اسمه النوادر- قال: فبينما أنا ذاهب إليه يوماً -وكنا في الربيع- أصابتني سحابة فأغرقت ملابسي وكتبي، فوافيت المجلس وحول الشيخ أعيان قرطبة فاستحييت، فلما رآني، قال: مهلاً يا أبا نصر ادنُ.

قال: فدنوت.

قال: لا عليك، خطبك سهل، إنما هي ثياب تبدلها بغيرها، أما أنا ففي جسمي ندوب تدخل معي القبر، وبعدها بدأ يقص عليه قصته حتى يهون عليه الذي حصل له، قال: كنت أختلف إلى مجلس ابن مجاهد رحمه الله الإمام المقرئ الشهير صاحب كتاب (السبع في القراءات) - قال: فبكرت إليه يوماً فإذا باب الدار مغلق، وصعب علي فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور وأُغلب على القرب منه! قال: فنظرت فإذا سرب بجانب الدار -أي: ممر صغير جداً، كان الممر كبيراً ثم ضاق من الوسط- قال: فمضيت فيه، فلما وصلت إلى منتصفه لم أستطع الخروج ولا النهوض، فجمعت قوتي ومضيت، فتمزقت ثيابي وتمزق لحمي وانكشف العظم، ثم لقيت الشيخ، وكان قادماً، فكنت أول الحاضرين، ثم أنشأت أقول: دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا والصبر: هو المر، قال: فكتبنا هذه الفائدة من النوادر قبل أوانها، ولازمته رحمه الله إلى أن مات.

ما الذي يجعله يندفع حتى ينكشف عظمه، ويتمزق لحمه؟ لأنه رجل أراد أن يكون قريباً من الشيخ؛ لأن القرب من الشيخ فيه ميزة، وقديماً لم يكن هناك مكبرات صوت، فكان الرجل الذي يجلس بجوار الشيخ مباشرة يسمع لفظه بوضوح بخلاف البعيد، فقديماً كان هناك رجل اسمه (المستملي) يقوم مقام مكبرات الصوت، فالمستملي هذا يكون في منتصف الجمع فيسمع ويبلغ، ولعل المستملي لم يسمع جيداً فيبلغ خطأ، فيحصل الخطأ، فينقله الذين من بعده، فكان الطلبة يحرصون جداً على أن يكونوا قريبين من الشيخ تحاشياً من تصحيف الأحاديث.

فالرحلة في طلب العلم تحتاج إلى همة عالية، ولا نعلم أحداً من العلماء الذين دارت عليهم الفتيا، وكان لهم منصب في العلم لم تكن لهم رحلة إلى الآفاق، والرحلة في طلب العلم سنة؛ لأن ضمام بن ثعلبة رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتثبت مما قاله له رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟ قال: نعم) إلى آخر الحديث.

فـ ضمام بن ثعلبة أراد العلو؛ لأنه لو كان مكذباً لذلك الرسول -وهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم- لكفر؛ لأن مكذب رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر، لو أن أهل اليمن كذبوا معاذ بن جبل -لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليبلغ التوحيد- لكانوا في حكم الكافرين،، فهو ما جاء لأن الرسول كاذب، كما قال العلماء؛ لكنه أراد أن يسمع مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم أيضاً كانوا كذلك، روى الإمام البخاري في صحيحه معلقاً، ووصله أحمد، وهو أيضاً -كما أظن- في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند حسن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (بلغني أن رجلاًً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده حديث في القصاص -القصاص يوم القيامة- قال: فابتعت بعيراً وركبته شهراً، فلما ذهبت إليه فإذا هو عبد الله بن أنيس الصحابي، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة -أو قال العباد- عراة غرلاً بهماً، قال: قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات) وكذلك التابعون أخذوا نفس هذا المنهج، فهي سنة متوارثة، كسنة القراءة مثلاً، فالرحلة في طلب الحديث سنة متوارثة يحرص عليها كل فحل؛ لكن العلماء قالوا: ينبغي له أن يأخذ علم أهل بلده أولاً، ثم يرحل إلى العلماء الآخرين، ولا ينبغي له أن يرحل إلا بإذن الوالدين، ولابد؛ لأن الرحلة فرض كفاية، وطاعة الوالدين في المعروف فرض عين.

وهناك قصة طريفة للإمام الذهبي رحمه الله، فإنه بدأ أول حياته بالقراءة، أعني بجمع قراءات المصحف، القراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة أو الواحدة والعشرين، وبرع فيها جداً،