[مقومات النصر في غزوة بدر]
إن المقومات التي كانت عمود النصر في بدر، أربع مقومات: قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:١٢٣]، أول مفتاح من مفاتيح النصر: ذل الإنسان وافتقاره إلى رب العالمين، فليس له قيمة إلا إذا نظر الله إليه، فيحقق العبودية؛ لأن العبودية معناها: الذل الكامل لله.
ولذلك الحجر والشجر عندما يختفي يهودي خلفه يقول: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.
فهل حققنا العبودية لله تباك وتعالى؟ بكل أسف لم نحققها على المستوى الجماعي، بل ولا حتى على المستوى الفردي، إلا طائفة من عباد الله هم الذين صبروا على اللأواء، وصبروا على التشريد وصبروا على الضرب.
ومن تمام العبودية لله: أنك لا تقدم شيئاً من الأحكام مطلقاً على حكم الله.
فهل يُعقل يا أخي أن يستفتى على تحريم الخمر؟ الخمر الذي حرمه الله بالنص القاطع الظاهر الذي لا يحتمل تأويلاً قط، تجدهم يعرضونه للتصويت، من كان حالهم مع دينهم هكذا فأنَّى ينصرون، لا والله لا ينصرون.
إن سنة الله الكونية لا تتخلف، ولا تحابي أحداً.
إن الله لينصر الدولة الكافرة لو كانت عادلة، ويخذل الدولة المسلمة لو كانت ظالمة.
إن المظاهرات كلها لعب وضحك يتم فيها استفراغ شحنات الغضب: الموت لإسرائيل، يسقط اليهود.
ثم بعد ذلك تنفد قوة المتظاهر ولا يستطيع أن يمشي على رجليه، فيذهب إلى البيت وينام على السرير.
هذه الأمة ينبغي أن يبقى بركان الغضب تأثراً في نفوس أبنائها، وأن تسير وفق برنامج عملي، منهجي يتم فيه تحقيق العبودية على وجهها كما أراد الله عز وجل، وكما سنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بيوتنا اليوم تعج بالمخالفات.
وأنت ولي الأمر في بيتك، ما الذي يمنعك أن تنقي بيتك من المخالفات؟ ما الذي يمنعك أن تكون قيماً على من في بيتك؟ إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
يوم نكون عبيداً لله عز وجل سننتصر على أعدائنا برغم قلة عتادنا وعدتنا، كما نصر الله عز وجل الذين خرجوا لا بنية القتال، وكانوا يقتسمون التمرات، وكانوا يتناوب الثلاثة منهم على البعير الواحد نصرهم على الكفرة الذين كانوا يذبحون عشرة جمالٍ في اليوم ويأكلونها؛ لأن الله قد حسم القضية فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:١٠]، (عزيز): لا يغلب جاره.
(حكيم): لا يمكن أن يضع النصر في أيدي أناس لم يحققوا العبودية له حكمته تأبى ذلك.
هل يعطي الله النصر لرجل لا يحقق العبودية له تبارك وتعالى؟ هيهات هيهات فأول مفتاح من مفاتيح النصر: الذل لله تبارك وتعالى وإقامة العبودية على وجهها.
والعبودية (باختصار): أن لا تحرك ساكناً ولا تسكِّن متحركاً إلا إذا كان مأذوناً لك فيه.
العبودية: أن لا تخالف النص حتى لو ظننت أنه يضرُّك، طالما أنه مطلوب منك أن تفعل فيجب عليك أن تفعل.
العبودية: أن تسبح ضد مصالحك الشخصية إذا كان فيه إيصال الخير لأخيك المسلم، كما حدث لـ جرير بن عبد الله البجلي، فقد كان له غلام يفهم في البيع والشراء، فذهب إلى السوق واشترى بعيراً جيداً بثمن بخس، وكان البعير يثمن بثمانمائة درهم وقد اشتراه الغلام بأربعمائة، وجاء مغتبطاً متهللاً إلى جرير بن عبد الله فلما سمع جرير كلامه قال: ائتني بصاحب الجمل.
فجيء به، وقال له: إن جملك يساوي ثمانمائة درهم وأعطاه الأربعمائة الباقية، فكان الغلام يقلِّب كفيه عجباً!! يقول: أنا اجتهدت واستطعت أن أربح في البيعة وآخذ البعير بأربعمائة، وإذا بك تعطيه ثمانمائة؟ قال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وليس هذا من النصح.
هناك من يبيعون الله ورسوله بلا مقابل لوجه الشيطان، وهناك من لا يفك البيعة بأموال الأرض فضلاً عن أربعمائة درهم العبودية تشمل الدين كله.
العامل الثاني: على قول الطائفة التي تعتقد أن هذه الآيات التالية نزلت في بدر: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} بقي العامل الثالث والرابع، {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:١٢٤ - ١٢٥]، (مُسَوِّمِينَ): عليهم سيما وعلامة.
ولا تعارض بين هذا العدد وبين العدد الذي ورد في سورة الأنفال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [الأنفال:٩]، هنا ألف ثم ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف، فلا معارضة؛ لأن آية الأنفال تقول: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩]، وفي قراءة نافع: (مُرْدَفِيْن): أي سيأتي بعدهم آخرون، فبدأ الإنزال بألف ثم ثنى بثلاثة آلاف حتى وصل إلى خمسة آلاف، كل هذه دفعات متتابعة كما نزل القرآن منجماً؛ لأنه أوقع في تثبيت النفوس، ولو نزل دفعة واحدة لما كان له تأثير قوي، لكنه نزل منجّماً على حسب الوقائع، تحدُث حادثة فتنزل آيات على مقتضى الحادثة، فإذا نزل الشيء على مقتضى الحدث ينفعل المرء له.
القول الثاني أن هذا الإمداد كان في أُحد، وسياق الآيات جميعاً في غزوة أحد، وإنما جاء ذكر بدر مُعْتَرَضَاً بين الآيات للتذكير، قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٢١ - ١٢٤].
فقالوا: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٢٤] هذه نزلت في غزوة أحد، وقد جعل الله عز وجل الإمداد مشروطاً بالتقوى والصبر، فلما خالفوا الشرط في غزوة أحد لم يحصل الإمداد فلهذا غُلبُوا آخراً، بعدما كانت الدولة لهم في الأول.
إذاً: مقومات النصر في غزوة بدر هي: ذلٌ، وصبر، وتقوى، واستغاثة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩].
أما الهزيمة في أحد فقد ذكر الله عز وجل الخلل الذي وقع فيه المسلمون في آية واحدة: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:١٥٢] قال ابن مسعود: (لولا هذه الآية لقلت أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً يريدون الآخرة) حتى قال الله عز وجل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:١٥٢]، ولا يحل لأحد أن يعيِّر الصحابة بهذا؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٥٢].
أما في حنين، فقد قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:٢٥]، وقالوا: (لن نغلب اليوم من قلة) فعوقبوا بالإدبار، وعوقبوا بالهزيمة حتى منّ الله عز وجل على المؤمنين ونصرهم لما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- لما أدبر الناس يوم حنين نادى نداءين فصل بينهما، النداء الأول قال: (هلموا إلي)، والنداء الثاني قال: (أنا عبد الله ورسوله) فأنزل الله عز وجل نصره عليهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.