[أنواع السؤال وحكم كل نوع]
والسؤال على نوعين: النوع الأول: لا يَقْدر على إجابته إلا الله.
والنوع الثاني: ما يقدر عليه العباد.
فالنوع الأول: محرمٌ كله، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في وصيةٍ جامعة: (يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
إذا سألت سؤالاً لا يقدر على كشفه إلا الله فلا تسأل فيه غير الله: وإلا فقد قال ربنا تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣].
فهناك مواضع يسأل المرء فيها، ويستغيث ويستجير، وهناك مواضع لا يحل له أن يفعل ذلك، قال عز وجل: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:١٤]، فهذا النوع محرم لا يحل لأحدٍ أن يدعو غير الله.
أما الاستغاثة فيما يقدر عليه الناس فهذه جائزة، ومنها: حديث أنس الذي رواه الشيخان في صحيحيهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب فقال: يا رسول الله: هلك الزرع والضرع ونفقت الماشية فادعُ الله أن يسقينا، قال: أنس وكانت السماء مثل الزجاجة ما فيها قزعة -أي ليس فيها سحابةٌ واحدة- فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء) ولا يجوز للخطيب أن يرفع كلتا يديه على المنبر إذا دعا لحديث مسلم الذي رواه عن عمارة بن رويبة رضي الله عنه: أنه رأى أحد خلفاء بني أمية يرفع كلتا يديه على المنبر: فقال: (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، إنما كان يشير بالسبابة)، هذه السبابة، إنما قيل لها سبابة؛ لأنهم إذا سبوا الرجلَ كانوا يشيرون إليه بها؛ لذلك سميت سبابة، وكانت العرب إذا شتم الواحد منهم الآخر كان يشير إليه بأصبعه وهو يسب، فهذه الإصبع سميت سبابة لذلك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفعها إشارةً إلى التوحيد، (فرفع إصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا).
وفي رواية أخرى قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
قال أنس: فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمطر يتحدر من على لحيته، قال: وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة أو قال: سبتاً) أي: أسبوعاً.
فسؤال المطر -إنزال المطر- لا يقدر عليه إلا الله، فلا يحل لأحدٍ أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا هو.
والنوع الثاني منه مثلاً: حديث أبي هريرة في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره فرسٌ له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره شاةٌ لها ثغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئاً).
ففي هذه الآية: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:١٥]، دليل على وجوب نصرة المظلوم، وأن من ظُلم فطلب الإغاثة، فيجب على الإنسان أن يغيثه بقدر استطاعته؛ لأن هذا أيضاً خاضع للاستطاعة والقدرة.
فلما وكزه موسى عليه السلام فقضى عليه: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:١٥]، وليس في هذا دليلٌ على تبرؤ العبد من الفعل، ليس في هذا نفيٌ للأسباب، كما ذهب إليه بعض المبتدعة، قال: هذا من عمل الشيطان، فنفى كسب العبد وهذا لا يجوز.
فمثلاً: لو أن رجلاً زرع (حشيشاً) مثلاً أو (أفيون) فقُبض عليه، فقال: أنا ما زرعت، إن الله قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:٦٤]، إن الله هو الذي زرع.
فلا يُقبل منه هذا القول أبداً! لماذا؟ لأنه نفى كسب نفسه.
إنما قال موسى عليه السلام: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:١٥]: إشارة إلى أنه الذي يأمر بالفحشاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:٢١]، وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:٢٨].
ومثله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من نفسٍ تُقْتَل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فما من نفسٍ تقتل ظلماً إلا حمل ابن آدم الأول جزءاًَ من هذه التبعة، مع أنه لم يباشر القتل بنفسه، لكنه هو الذي سن القتل.
ومثله وأوضح منه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنةً حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
ومثله أيضاً: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يوشك أن يأتي على الناس زمان فيقول أحدهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضل بترك فريضةٍ أنزلها الله: ألا -وهذا هو الشاهد- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم، ورجم أبو بكر ورجمتُ) مع أننا لا نعلم في خبرٍ من الأخبار قط: أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر الرجم بنفسه، لم يباشر الرجم بنفسه ولا أبو بكر ولا عمر، ومع ذلك يقول: رجم رسول الله، ورجم أبو بكر، كما لو قال الرئيس مثلاً: أنا الذي قاتلتُ وأنا الذي انتصرتُ، مع أنه ما باشر القتال بنفسه؛ لكن أمر بذلك، فيُعْزى ذلك للرأس الآمر الحاض على ذلك، ولذلك: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:١٥]؛ لا أنه نفى كسب نفسه في المسألة، وإلا لِمَ استغفر إذَنْ؟! إذا كان هذا من عمل الشيطان وهو لم يعمل شيئاً فلِمَ استغفر؟! ولِمَ {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:١٦]؟ ما قال ذلك إلا لأنه باشر، فليس في قوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:١٥] نفيٌ للأسباب.
ثم وصف الشيطان بوصفين يتكرران في سائر القرآن: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:١٥] أي: عمله الإضلال، وعداوته بينة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٦ - ١٧].
وهذا من حق المنعم، أن لا تكون ظهيراً للمجرمين عليك.
يا لَضيعة الوفاء عند اللئام! يأكلون من خيره وينيبون إلى غيره! وهذا ليس من الوفاء.
فهذا موسى عليه السلام يحكي الله عنه: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٧]، أي: بسبب نعمتك عليّ لا أتولى الذين ظلموا.