بدأ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بصيغة لم نعهدها منه، وهو أنه يُقْسِم على صدق الكلام، مع أنه مُصَدَّق بدون قسم، وقلَّ ما يُقْسِم على شيءٍ، فإذا أقسم على شيءٍ فاعلم أن المسألة فيها لبس، وتحتاج إلى تجلية، كما قال تبارك وتعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}[الذاريات:٢٢ - ٢٣] فأقسم بذاته على هذه القضية؛ لأن كثيراً من العباد يخلط فيها، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات:٢٢]؛ فأكثر الناس لا يصدق هذه الحقيقة، مع أن رزقك ورزق الذي يهددك بقطع رزقك في السماء لا في الأرض، وهذا الذي يهددك بأن يَفصلَك من عملك ويُجوعَك ويُضيعَك هو لا يملك رزقَه، بل رزقُه في السماء، ولو أن الرزق كان في الأرض لأذل الناسُ بعضُهم بعضاً، كما قال تبارك وتعالى:{قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ}[الإسراء:١٠٠]، لو أن هذا الرزق بيد أحدٍ لاستكثره على الناس؛ لأنه بخيل ظالم جهول، وهذه صفة الإنسان، وأصله.
فلأن العباد لا يصدقون هذه المسألة، أقسم الله تبارك وتعالى أن هذا حق مع أننا نصدقه بغير قَسَم، وكان بعض سلفنا إذا قرأ هذه الآية بكى لها، ويقول: مَن أغضبَ الجليلَ حتى حَلَف؟! أي: نحن نصدقه بغير حَلِف، فحَلَف أن هذا حق، ثم ضرب لك مثلاً بدَهياً لا تشك أنت فيه قال:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}[الذاريات:٢٣] إذا كنت تشك في أنك تتكلم فشُكَّ في هذه القضية، فإذا كان الشك لا يرقى أصلاً إلى مسألة الكلام هذه فكيف يرقى إلى مسألة الرزق، وأنه في السماء؟! فإذا رأيت الآية أو الحديث فيهما حَلِف فاعلم أن الأمر جليل.