[زراعة الأرض واستثمارها]
القسم الثالث: وهو زراعة الأرض واستثمارها.
قرأت مقالاً لبعض المستشرقين يحتج فيه بحديث في البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام (رأى محراثاً في بيت فقال: ما دخل هذا بيت قومٍ إلا أدخله الله الذل) فقال: إن هذا يدل على أن الإسلام لا يحث على زراعة الأرض واستثمارها، هذا مع كون النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، لا يقولن أحدكم: إن الساعة تقوم، اغرسها.
وإنما كان هذا التنبيه؛ لأن ابن آدم مجبول على ألا يفعل شيئاً إلا بفائدة من ورائه، إذا رأى شيئاً لا يعود عليه بفائدة تركه.
كان عندنا طبيب مشهور، لكنه ظل أكثر من ثلاثين عاماً يتمنى أن يرزق بولد أو بنت، وجاب الأرض شرقاً وغرباً، وأخفق في ذلك، وهو طبيب، وليس هناك أحد سيرث هذه الأموال، فكان قد اشترى عمارات وعقارات وبنى أكثر من عيادة، ولكن لما أيس من أن ينجب ولداً فجأة وجدوه يبيع كل ما يملك، وباع كل العيادات واقتصر على عيادة واحدة، فسألوه عن ذلك، قال: لمن أدع هذه الأموال؟! أنا أشقى وأتعب وأجمع ثم أتركها لمن؟ ليس لي ولد.
لو كان رجلاً يحكمه الشرع لأنفق أمواله كلها على الفقراء والمساكين، هذه الأموال وهذه العقارات التي باعها أين تذهب الأموال الزائدة النقدية؟ وضعها في البنك، إذاً كان وجود هذه العقارات أرحم له، هذا الرجل كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن شعر بأن الجو حار فدخل في فرن، مع أن العاقل لا يفعل ذلك، لكن هذا الرجل لا يحكمه الشرع، لذلك أخذ كل هذه الأموال ووضعها في البنك، وصار يأكل منها شيئاً فشيئاً حتى بددها، وما استفاد منها شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
الشاهد من هذا: أن الإنسان مجبول على أنه لا يصنع الشيء ويمضي فيه إلا إن حصلت له من ورائه فائدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كأنه ينبه على هذا، فيقول: لا يقع في روعك أن الساعة تقوم ولا أحد يستفيد من هذا الغرس؛ فيحملك ذلك على ألا تغرسه لا، اغرسه (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).
وفي الحديث الصحيح الآخر: (ما من رجل يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طائرٌ أو إنسان أو حيوان إلا كان له به أجر) هل هناك حض أكثر من هذا على استثمار الأرض؟ نحن بطبيعة الحال لا نقول هذا الكلام لنقنع هذا المستشرق لا، فهؤلاء هويتهم معروفة، إنما هذا الكلام قد يجلي الغموض على بعض أبناء أولئك المستشرقين، الذين يأكلون ويشربون ويتغوطون عندنا، فيكتبون على صفحات الجرائد والكتب والمجلات أشياء تزكم الأنوف.
أخرج أحدهم كتاباً مسلسلاً على مدار سنة أو أكثر، وسماه: (تبشير الأصحاب بتحريم النقاب) وكتب مؤهلاته العلمية على جلدة الكتاب من الخلف، فحل لنا لغزاً عظيماً إذ علمنا أنه طبيب بيطري متخصص في السموم، فعلمنا أن هذا من السم الذي نفثه.
يقول في آخر الكتاب: (والمرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة، وإننا إذا استغفرنا للمتبرجة مرة، سنستغفر للمنتقبة مرتين؛ لأن المتبرجة تعلم أنها عاصية بتبرجها، أما المنتقبة فتظن أنها مطيعة بنقابها، والنقاب حرام، فهذه أبعد عن الصراط المستقيم من المرأة المتبرجة!) فهل يصح في عقل عاقل أن تستوي في الإثم امرأة تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه وامرأة منتقبة؟! فلما قيل لهم: كيف تنشرون مثل هذا؟ قالوا: حرية رأي.
إذاً اسمحوا لنا بالرد عليه.
قالوا: اكتبوا.
فكتب العشرات وأرسلوا إلى الجريدة، ولكنهم لم ينشروا شيئاً؛ وقالوا: ليست هناك مساحات خالية.
وقد اشتكى شيخ الأزهر من الجرائد الرسمية بأنه يرسل الرد على بعض الناس فلا ينشر؛ لأن القائمين على أجهزة الإعلام معروف أن هويتهم علمانية، فيسمحون للمرأة على شواطئ الإسكندرية أن تخرج بالمايوه، وفي الجامعات أن تذهب متبرجة، ورغم ذلك يمنعون المنتقبات من دخول الجامعات؟ لماذا لم يعاملوهن معاملة أولئك؟ أنتم تقولون: إن المرأة عندما تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه أو عارية أن هذه حرية أليس لأولئك حرية أيضاً؟!! الحرية إذن في الطعن على الإسلام والمسلمين فقط، هذه هي الحرية.
فهؤلاء إذا ترجموا لنا كتب المستشرقين قالوا: هذه آداب، وهذه فنون، ننقل ما عند الناس؛ لأنهم ينقلون ما عندنا، تريدون منا أن نتحجر، ثم يقذفوننا بما في جعبتهم من الرجعية والتخلف والانحطاط، والرجوع إلى القرون الوسطى، والله يعلم أن هذا المتكلم لعله لا يعلم شيئاً عن القرون الوسطى، لكن هذه الكلمة إنما تقال في معرض التحجر.
وهذا أحمد بهاء الدين يذهب إلى أمريكا للعلاج، ويرسل من هناك مقالاً يقول: (بينما العالم يتابع سفينة الفضاء الأمريكية التي أطلقت من أكثر من عشرة أعوام، وترسل الصور من على القمر، نجد عندنا من يتكلم عن فوائد البنوك هل هي حلال أم حرام؟ وهل النقاب واجب أم مستحب؟ وهل تغطية الوجه كذا! أفيقوا يا قوم!).
حسناً ما علاقة العلماء بسفينة الفضاء؟! كان من الأحرى والأجدى أن يوجه مثل هذا التقريع إلى رجال الفضاء بمصر لماذا؟ لأن هذا تخصصهم، فيقول لهم: أنتم لا تعرفون إلا الهلال، وظهور الشمس، اخرجوا من هذا القمقم وتحركوا وانظروا، وخذوا تكنولوجيا العالم لكن -كما قلنا- الشيخ دائماً مهضوم، وكل بلية تنسب إليه، وكل حسنة وإن جاءت منه تنسب إلى غيره؛ لأنه -كما قلنا- ليست الدولة لهم.
هناك مسرحية مشهورة وهي مسرحية: مدرسة المشاغبين، وفي هذه المسرحية في البداية أتوا بهيئة التدريس ينشدون النشيد الوطني للمدرسة، وكان من ضمن هيئة التدريس: مدرس الدين، وأتوا بهم وهم يغنون ويرقصون، وكان أفضل رجل رقص فيهم وحاز على قصب السبق مدرس الدين.
لا يستطيعون أن يجعلوا قسيساً مكان هذا الرجل، لكن لأن الشيخ ممتهن، إذا تكلم الشيخ -مثلاً- في الإعجاز الفضائي، يقولون له: وما أدراك بالفضاء؟! ابق في الحلال والحرام، لا تتكلم في الفضاء.
والمهندس أو الفلكي عندما يتكلم في الدين لا أحد يقول له: لماذا تتكلم في غير تخصصك؟ وإذا قيل له ذلك قال: الدين لله، وليس ملكاً لك.
وهذه كلمة حق أريد بها باطل؛ لأن الدين لله عز وجل من ناحية الاعتقاد، وليس من ناحية التصدر للفتيا، لم يقل أحد من أهل العلم قط أنه يباح لكل أحد أن يفتي، ما قالها أحد قط، فمسألة (الدين لله) أي: اعتقاداً لا يجبرك أحد، لكن (الدين لله) أي: الفتيا، يتجرأ عليها كل أحد، ما قال أحد من أهل العلم بهذا قط، ولا أنصاف المتعلمين يجرءون على قولها، إنما هو -كما قلنا- الجور على أهل الدين، فهم لا يعاملوننا بالعدل حتى ذراً للرماد في العيون.
فيأتي هذا فيترجم هذه الأشياء التي فيها فظاعة وطعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجرؤ أحد على منع هذا من النشر -كما قلنا- لأنهم يقولون: حرية رأي.
توفيق الحكيم روائي معروف، قال هذا القول عندما بلغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: إذا بلغت عبدي ستين سنة فقد أعذرته)، وقد زار فرنسا ورجع، فاستضافوه في صحيفة الأهرام وسألوه: ما أفضل شيء أعجبك في فرنسا؟ فقال: الزواج الجماعي.
في الأشهر الماضية يسألون وزير الثقافة على صفحات (جريدة الأهالي) لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ يقول: حباً في النساء؛ لأن الرجل الذي يتزوج يقتصر على امرأة واحدة.
ما معنى هذا الكلام؟ أي أن الذي لا يتزوج له النساء جميعاً، والذي يتزوج كصاحب المحل، له محل واحد، أما العامل فله ألف محل، يستطيع أن يترك هذا المحل ويذهب إلى ذاك.
فقام الناس وقالوا له: إن هذا فسق وفجور، وإعلان للخنى، ولا يجرؤ أحد أن يمنعه أو يتكلم لماذا؟ يقولون: هذه حرية.
فهذه المقالات التي يترجمونها فيها السم الزعاف الذي يقتل به أبناء المسلمين في بلادهم، مثل هذا المقال -كما قلنا- دخل من باب حرية الرأي، وفيه طعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
فيقول هذا: إن الإسلام يدعو إلى الخمول والكسل، بدليل أن هذا الحديث يقول: إن الرجل الذي يمتلك آلة الحرث في بيته يذل، مع أنه عمي أو تعامى عن تبويب الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث، وقال: باب ما يخشى من الاشتغال بآلة الزرع -أي: عن ذكر الله تبارك وتعالى- فيقول: إن هذا الرجل إذا استخدم المحراث في زراعة الأرض وتفانى فيها بحيث ألهته عن ذكر الله، فليس بعد دخول النار ذل، هذا يقضي عليه بالذل إن اشتغل به عن ذكر الله تبارك وتعالى هذا وجه من وجوه الحديث.
الوجه الآخر: وهو أن الذي يعمل بآلة الزرع يتعرض للذل بسبب الجباية التي تفرض عليه، وعلى المحصول الذي يخرج من الأرض؛ فيتعرض للذل، وهذا كائن، فمثلاً يقولون: الفدان يُخرِج مثلاً طنين من الأرز -ألفي كيلو- ويجب أن يورد إجباراً إلى الجمعية الزراعية طناً ونصف، بسعر -مثلاً- مائتي جنيه، في حين أن هذا الطن في السوق السوداء بستمائة، إذاً: الفرق أربعمائة في الطن الواحد، هب أن الله منع الثمرة وغارت الأرض، ماذا يفعل هذا الرجل؟ يجب عليه أن يشتري طناً ونصف بسعر ستمائة حتى يوردها بسعر مائتين، إذاً يخسر، وإن تخلف عن السداد سجن أليس هذا من الذل؟ فكأن في هذا الحديث إشارة إلى ما يفرض على ذاك المزارع من الجبايات الظالمة التي تعرضه للذل: إما بتعريضه للسجن إذا لم يوف ما عليه، وإما بتعريضه للجوع هو وعياله.
فهذا الذي يفهم عليه الحديث، ليس أن الإسلام يمنع من استثمار الأرض، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)؟ لذلك هذا الرجل يقول: (وأرد فيها ثلثه)؛ لأنه إن لم يرد ثلثه لا يتمكن من أداء الأمرين الأولين: الأمر الأول: وهو الإنفاق على الأولاد.
والأمر الثاني: وهو أن يتصدق، وأن يحظى عند الله تبارك وتعالى بالخير العظيم.
فهذا الثلث الذي يرده في باطن الأرض يعينه على إنجاز الأولين.