الذين يوصون عند الموت هم الذين يخافون الله تبارك وتعالى، قال عز وجل في حق إبراهيم عليه السلام:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}[البقرة:١٣١ - ١٣٢] وصى بها بماذا؟ بـ {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:١٣١]؛ لأن هذا أقرب مذكور للضمير، وأقرب مذكور للضمير هو المقصود من الكلام، فقوله:(بها)، والهاء هنا هو الضمير،؟ وأقرب مذكور:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:١٣١] أي: أنه أوصى أولاده بالإسلام.
ويعقوب أيضاً وصى أولاده:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}[البقرة:١٣٣] فهو يطمئن على هذه الذرية، وعلى دورها في الحياة.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أوصى، فقال:(استوصوا بالنساء خيراً) مِن آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم، وهذا ومن آخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام أيضاً قوله:(لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك -ثلاث مرات).
وعند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه أوصى في مرض موته قال:(الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللبِن كما صُنِع برسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي سنن ابن ماجة ومسند أحمد بسند حسن عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لما جاءته الوفاة قال:(ألا لا تتبعوني بمجمر -أي: بنار - ولا تبنوا على قبري بناءً، وإني بريء مِن كل سلق وحلق وخرق، قالوا: أسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم).
وقصة الرجل الذي أوصى أولاده أن يحرقوه إنما أوصى بذلك؛ لأنه كان نباشاً للقبور، يعني: فإذا دفنوا الميت يفتح القبر ثم يأخذ الكفن ويترك الميت عرياناً.
فلما قرب أجله وأحس بدنو أجله جمع أولاده فقال لهم:(أي بَنِيَّ! كيف كنتُ لكم؟ قالوا: يا أبانا كنت خير أب، قال: فإن أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني -أي: يطحنوه- ثم ذروني في يوم عاصف، فإن الله إن قَدَر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات نفذوا الوصية، فجمعه الله تبارك وتعالى بقوله: كن، فكان الرجل فقال: أي عبدي! ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: خشيتُك، قال: أما قد خشيتني فقد غفرت لك).
فجرت عادة الصالحين الخائفين من لقاء الله عز وجل أن يوصوا؛ ولكن لا يفوتني أن أنبه إلى أن الوصية إن كانت بمعصية فلا تنفذ بالاتفاق، وهذه قصة رجل ممن سبقنا، فلا حجة بهذه القصة؛ لأن في شرعنا ما يخالفها.