للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دروس من غزوة بدر]

لقد تمت غزوة بدر على غير ميعاد، فقد خرج المسلمون من ديارهم بقصد إحراز العير، حيث كان المهاجرون قد خرجوا من ديارهم وأموالهم فقراء مختارين راضين، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:٦٦].

الخروج من الديار ليس أمراً سهلاً، ومع ذلك تركوا أموالهم أيضاً، منهم: صهيب الرومي خرج سراً في جناح الليل، من مكة إلى المدينة، فعلم كفار قريش بخروجه فأدركوه في الطريق، قالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، وتريد أن تخرج بالمال؟ قال: أرأيتم لو أعطيتكم مالي تخلو بيني وبين ذهابي؟ قالوا: نعم.

فأعطاهم المال، فلما وصل إلى المدينة لقي النبي صلى الله عليه وسلم وحكى له ما جرى، فقال له: (ربح البيع أبا يحيى).

هذه الأنفس خالقها هو الله وهذه الأموال رازقها هو الله، يأخذها منا ويعطينا الجنة، فخرج هؤلاء من ديارهم وأموالهم، وكان لا بد من القصاص، قالوا: نعترض العير ونأخذ هذه الأموال عوضاً عن الأموال التي أخذوها منا.

أراد جماعة من الأنصار -وكانت بيوتهم في عوالي المدينة- أن يذهبوا ويأتوا بالعدّة ولأمة الحرب والخيول، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نخرج لقتال، إنما لنحرز العير وهذا العدد كاف.

كانت القافلة فيها أبو سفيان وبضعة عشر رجلاً، خرج لها ثلاثمائة وبضعة عشر مسلماً، لم يكن معهم غير فرسين: فرس الزبير بن العوام وفرس المقداد بن الأسود وكان معهم ثلاثون بعيراً، كل ثلاثة يتناوبون بعيراً.

لكن الحرب فرضت نفسها، فقد استطاع أبو سفيان أن يستأجر رجلاً ويأخذ ساحل البحر هارباً، وأرسل الأجير إلى قريش يطلب النجدة ويخبرهم أن العير أفلتت وأن المسلمين خرجوا للاعتداء عليها.

فقال أبو جهل للناس: لابد أن نرد بدراً وننحر ونشرب الخمر وتغني لنا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً، لكن الله عز وجل جمع بينهم على غير ميعاد.

فلما فرضت الحرب نفسها ولم يأخذ المؤمنون أهبة استعدادهم؛ تضرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه وبالغ في رفع يديه وفي إظهار الذل له تبارك وتعالى: اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنهم عالة فقراء، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض.

وبالغ في رفع يديه ذلاً واستكانة وانخلاعاً من الحول والقوة، حتى أمسك أبو بكر بمنكبه صلى الله عليه وسلم بعدما سقط رداءه من على منكبه وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.

حينئذٍ تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا بكر! هذا جبريل نزل على ثناياه النقع وقد لبس لأمة الحرب.

وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩] مردفين، أي: بعضهم يتبع بعض، فلماذا نزلوا؟ {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:١٠]، كان نزول الملائكة بشرى أن النصر قادم ولتطمئن القلوب بأن الملائكة في جوار المؤمنين، وهذا النصر هو من عند الله؛ ولذلك قال عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:١٠]، ما انتصر الملائكة وما نزلوا للنصر، إنما نزلوا للبشرى ولتثبيت الأقدام {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:١٢٦]، عزيز لا يُغلب، ولا يذل جاره إذا استجار به.

ودارت رحى الحرب وكانت موقعة بدر الكبرى، وكانت فرقاناً كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:٤١]، فصارت شامة في جبين الدهر، حتى صار الذي حضرها يُنسب إليها ولا ينسب لأي غزوه من غزوات الإسلام، فيقال: فلان البدري، ولا يقال: الأُحدي ولا التبوكي ولا اليرموكي ولا أي غزوة من الغزوات، فنزلت فيهم بشارات عظيمة.

منهم حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى امرأةً كتاباً بخروج النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في ظفيرتها يخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فأرسل علي بن أبي طالب والمقداد بن الأسود وقال: اذهبوا إلى روضة خاخ، حيث تجدون ضعينة، في ظفيرتها كتاب، ائتوني به.

فذهبوا إلى هناك، فوجدوا المرأة، فقال لها علي بن أبي طالب: أخرجي الكتاب.

قالت: ما معي من كتاب، قال: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، ففكت المرأة ظفائرها وأخرجت الكتاب، فأخذه علي بن أبي طالب، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حاطب في المجلس لا يعلم شيئاً، ففتح الكتاب وقرأ: من حاطب بن أبي بلتعة إلى نفر من المشركين يخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

لما قرئ الكتاب استشاط عمر غيظاً وقال: يا رسول الله! دعني أقطع عنق هذا المنافق.

فقال حاطب الذي شهد بدر: يا رسول الله! لا تعجل عليِّ، فوالله ما فعلت هذا كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكن لي قرابة في مكة.

كان حاطب ليس له نسب وليس له ظهر في مكة، فكان المشركون يؤذون قرابته أشد الأذى، فأحب أن يتخذ يداً عند المشركين يحمي بها قرابته، فكان هذا هو الذي دفعه إلى هذا الفعل، قال: ما فعلت هذا كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، فأردت أن أتخذ صنيعة أحمي بها قرابتي ومالي).

فقال عمر: يا رسول الله! دعني أقطع عنق هذا المنافق.

فقال لـ عمر: (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).

هذه خاصِّية ليست لأحد إلا لهذه الطائفة التي شرفها الله عز وجل بحضور هذه الموقعة، ففي الحديث الصحيح أيضاً أن حاطب بن أبي بلتعة كان قاسياً على غلامٍ له يضربه، فذهب الغلام يشتكي حاطباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من جملة ما قاله الغلام للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال صلى الله عليه وسلم له: كذبت إنه شهد بدراً إنه شهد بدراً.

وقال: (لا يلج النار أحد شهد بدراً والحديبية) لأن بدراً كانت فتحاً وكانت الحديبية فتحاً أيضاً، ونزل في الحديبية قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:١]، مع الظلم الظاهر في بنود صلح الحديبية.

فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالله، وقد كان له صلى الله عليه وسلم عريش يصلي فيه طول الليل ويدعو الله تبارك وتعالى أن ينصره على هذه الطائفة.