للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان ذكاء هرقل في طرح الأسئلة]

فهرقل هذا داهية، دلنا على ذلك تصرفه، ونوعية الأسئلة التي سألها لـ أبي سفيان، وسوف نتعلم من أسئلة هرقل عدة دروس: الدرس الأول: قال: أيكم أقرب نسباً من هذا الذي يزعم أنه نبي؟ نستفيد من هذا السؤال شيئين: الشيء الأول: لماذا طلب أقرب النسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لأن الرجل إذا كان يربطه نسب بالنبي عليه الصلاة والسلام فإنه لن يكذب عليه، لاسيما إذا كان النسب شريفاً، بخلاف لو لم يكن من أقاربه؛ لأن الغريب يطعن في النسب، ومسألة الطعن في الأنساب كانت منتشرة في الجاهلية، ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام الطعن في الأنساب من خصال الجاهلية، بل جعلها من خصال الكفر، فقال: (صنفان في أمتي هما بهما كفر: النياحة، والطعن في الأنساب)، والعرب كانوا يعظمون الأنساب غاية التعظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام دندن كثيراً على أن النسب لا ينفع عند الله، فقال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وقال: (يا فاطمة! اعملي فإني لا أملك لكِ من الله شيئاً).

ثانياً: قوله: هذا الذي يزعم.

نحن نعلم أن كلمة (زعم) أغلب ما تستخدم في الكذب؛ قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:٧]، و {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:٢٤] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (بئس مطية الرجل (زعموا)) لأن زعموا تدل على أنك لست متأكداً من كلامك، والأخبار يدخلها الصدق والكذب، طالما أنه لا يوجد تأكد من الكلام إذاً (زعم) مطية للكذب، فأكثر ما تستخدم هذه الكلمة في الكذب، لكن تستخدم أحياناً في الصدق، وهذا كقول ضمام بن ثعلبة لما جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟) إلى آخر القصة المعروفة.

قوله: (إن رسولك يزعم أنك تزعم) ولو كان ضمام بن ثعلبة يكذبه ما جاءه، فالزعم هنا محمول على الصدق، وكذلك بعض العلماء يستخدم الزعم في الصدق، كقول سيبويه في كتابه الشهير: زعم الخليل كذا وكذا.

والخليل بن أحمد الفراهيدي هو شيخ سيبويه، وصاحب كتاب: العين، وهو أول معجم في اللغة العربية.

وما قصد سيبويه أن يرد كلام الخليل، إنما قصد أن يحتج بكلام الخليل، فأورد كلام الخليل مورد الاحتجاج ومع ذلك يقول: زعم الخليل كذا وكذا؛ زعم: أي قال قولاً صحيحاً.

فهرقل لما قال: هذا الذي يزعم أنه نبي؟ فهذا نوع من التمويه والاستدراج لـ أبي سفيان؛ لأن أبا سفيان إذا علم أن هرقل منحاز للنبي عليه الصلاة والسلام انحيازاً كاملاً لعله يكذب، لا يصدقه، لكن إذا علم أنه يشكك في نبوته فهذا يجرئه على أن يقول كل ما عنده.

وهذا نوع من الاستدراج الذكي، فأنت عندما تتهم شخصاً فلا تباشره بالاتهام؛ لأنه يمكن أن ينكر كما حدث في قصة الساحر والراهب، لما علم الملك أن هناك بذرة إيمان بدأت تنبت في المملكة، ثم علم أن جليسه قد آمن بسبب الغلام؛ فعلم أن الغلام يدعو الناس للإيمان، فالملك استدرجه، ولم يتهمه مباشرة، لذلك هرقل كان يعلم أن أبا سفيان عدو للنبي عليه الصلاة والسلام، فلم يرد أن يستفزه، لكي يأخذ منه الخبر اليقين، ولذلك أفلح فعلاً في استدراجه وحاصره بالأسئلة.