وهناك قصة فيها عبرة، استخدم الحيلة فيها الإمام العلم المفرد الكبير الذي لولاه ومالك -كما قال الشافعي - لضاع الحديث بالحجاز كلها، وهو الإمام الكبير أبو محمد سفيان بن عيينة رحمه الله، شيخ الشافعي وأحمد بن حنبل.
والذي حصل أن الإمام الكبير وكيع بن الجراح حدّث بحديث في مكة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي انشغل المسلمون عنه ثلاثة أيام حتى ربا بطنه وانثنى إصبعه، والثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت كأنه حي، لا يربو بطنه ولا يتأثر، ولذلك قال أبو بكر الصديق:(طبت حياً وميتاً)، وهذه من خصائص الأنبياء، أن الأرض لا تأكل أجسادهم ولا يتغيروا، فـ وكيع بن الجراح لما حدث بهذا الحديث قامت عليه القيامة، ووكيع كان كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها في سماء الحديث، فلم يكن نكرة، كان يقرأ القرآن كل يوم، حتى أن الذهبي رحمه الله لما ذكر ترجمة وكيع في كتابه النفيس (سير أعلام النبلاء) قال: هذه عبادةٌ يخضع لها؛ لكنها مفقودة من مثل هذا الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه).
أول ما حدّث وكيع بهذا الحديث هاج عليه العوام، لأنه تحدث عن المحبوب الشريف الرسول عليه الصلاة والسلام، ووكيع لا يساوي شيئاً أمام رسول الله ونحن لا نحابي ولا نجامل.
نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواسيا أي: لو أنه هو أحب حبيب ووقف الحبيب في خندق عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عدو؛ لأننا لا نعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، هذه هي علامة الإيمان، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، ووكيع ليس مكياً بل هو عراقي -أي: أنه ضيف- وعادةً عندما يرحل العالم الكبير ليدرّس في بلد آخر يرحل إليه الكل؛ لأنه ليس لهم طاقة أن يذهبوا إلى بلده، وقد كانوا يسكتون إذا ارتكب الإمام أمراً مباحاً حتى لو ارتكب ما ارتكب، كـ الأعمش عندما كان يضرب تلاميذه ويخيفهم بالكلب لم يعترض أحد، وكانوا يصبرون عليه، ولم يزهد أحد في حديث الأعمش؛ لأن هذا محتمل، لكن إذا كانت المسألة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا، ووصل السخط على وكيع منهم أن رفعوا أمره إلى الوالي، فعندما علم الوالي بهذه المسألة جن جنونه، وأخذ وكيع وحبسه وحكم عليه بالإعدام، ولم ينظروا في حجة وكيع.
شيء ظاهره الإزراء بالنبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت أحد، انظر إلى هذا الموقف المشرق! وانظر إلى المواقف المخزية التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، يستهزئ أصحاب الصحف والمجلات والكاركاتير بالله ورسوله، ويقوم سلمان رشدي يشتم الرسول عليه الصلاة والسلام ويصف زوجته بالداعرة وحكامنا نيام، معهم فقط عيد العمال وعيد الشجرة وعيد الثورة وبقية الأعياد يتكلمون فيها عن الديمقراطية، أما عندما يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم وتتهم زوجته ينصتون ولا يتكلمون.
فعلم سفيان بن عيينة وهو في المدينة بأن وكيع سيقتل، فسافر من المدينة إلى مكة، ودخل على الوالي، وقال: الله، الله هذا فقيه أهل العراق كيف تقتلونه؟ قال: أولم تسمع ما قال؟ قال: قد روي هذا الحديث حسناً فمن الذي رواه لـ سفيان؟ الذي رواه لـ وكيع.
مفعول لما لم يسم فاعله وبعد ذلك خلصه من أيدي الحاكم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.