قال:) وافتقار) الافتقار إذا أخطأه طالب العلم لم ينتفع بعلمه، والافتقار: هو التواضع وخفض الجناح للأقران فضلاً عن العلماء، فالعلم يهدي إلى التواضع، وكلما تبحر الإنسان في العلم؛ كلما أدرك فداحة ما كان فيه قبل ذلك من الجهل، لما يرى رجوع العلماء عن مسائل أبرموها، ويعتقد أنه ليس أفضل منهم، بل لقد كانوا أذكى منه، وكان لهم مئات المسائل، وربما لم يكن له إلا شيخ واحد أو أكثر، لكنه لا يصل إلى عشر معشار هؤلاء، ومع ذلك أخطئوا في مسائل، فيرحم نفسه ويرحم الآخرين.
وقد قرأت لبعض الذين صنفوا رسائل وطاولوا فيها جبال الحفظ والفقه بجهل عظيم، فلو كانت هيئة كبار العلماء لها قوة؛ لما انتشر كل هذا الفساد، وخير دليل على ذلك: نقابة الأطباء عندما أعلن وهو دكتور أحمد وهو دكتور الجهاز الهضمي، وهو رجل مشهود له بالكفاءة في جراحة الجهاز الهضمي على مستوى العالم -أعلن أنه اكتشف علاجاً للإيدز وبدأ يجربه على بعض المرضى؛ قامت الدنيا ولم تقعد كيف تجربه قبل أن يدخل المجالس الطبية العالمية، ويصرح لك به، أأرواح الناس لعبة؟! ومع نباهة الرجل ومع جلالة منصبه في الطب أوقفوه عن ممارسة المهنة.
وهؤلاء الذين يلعبون بالدين بهذه الرسائل التي يؤلفونها، وينقضون ديننا عروة عروة باسم المنهجية العلمية والحياد العلمي، ولا أحد يقول لهم: لماذا تكتبون هذا؟ لا حساب؛ لأن الهيئة في غاية الضعف، لا تملك لساناً ولا يداً، فهناك من كتبوا باسم المنهجية العلمية ويردون على كبار العلماء وكبار الحفاظ ويتهمونهم بالجهل، وهذا كله من باب الكبر وعدم الاعتراف بالجميل والله الذي لا إله غيره، لو وُجد واحد من هؤلاء الذين يكتبون الآن في الزمن الأول لما صلح أحدهم أن يصب الماء على الشيخ ليتوضأ، فضلاً عن أن يؤصل في مسألة علمية! لقد لبسوا لبوس العلماء فضللوا العوام الذين لا يفرقون بين العالم وبين شبيه العالم! وهناك قصة طريفة في مسألة الخلط بسبب اللباس، ذكرها أهل الأدب، ومنهم: أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة أحد الشعراء الصعاليك في الجاهلية وهو ثابت بن جابر، وله لقب مشهور به: تأبط شراً، قيل: أنه وجد الغول في الصحراء مثل الخروف، فوضعه تحت إبطه ودخل على أهله، فلما رأوه وعرفوا أنه الغول، قالوا: يا ثابت تأبطت شراً، فألقى به، فلقب تأبط شراً، وهو أحد أشهر ثلاثة شعراء صعاليك، وهم ثلاثة شعراء: ثابت بن جابر، والشنفرى، صاحب اللامية الرائقة التي منها هذا البيت الجميل: وفي الأرضِ منأىً للكريمِ عن الأذى وفيها لمن خاف القِلَى متحول والشاعر الثالث: عروة بن الورد هؤلاء هم أشهر الشعراء الصعاليك.
فـ ثابت بن جابر - تأبط شراً - قابله ثقفي أحمق، فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟ فقال: أذكر لعدوي أنني تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه أريد، قال: أبهذا فقط؟ قال له: فقط.
فقال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بم؟ قال: بهذه الحُلة الجيدة -وكانت لديه حلة جديدة- وبكنيتي -وكان يكنى بأبي وهب فقال له: موافق، فقال الثقفي: لك حلتي ولك كنيتي، فقال له: وأنت تأبط شراً، فذهب الرجل مسروراً، فكتب تأبط شراً ثلاثة أبيات وبعثها لامرأة الثقفي الأحمق؛ قال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسم اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وسورتي وأين له في كل فادحة قلبي أخذ اسمي لكن هل أخذ جراءة قلبي؟ هل أخذ بأسي وصبري وجلدي على الأحداث؟ لم يأخذ هذا كله، إنما أخذ الاسم فقط.
فطالب العلم إذا دخل العلم بلا افتقار لم ينتفع، فلا بد أن يفتقر ويخفض الجناح لأقرانه، ويعلم أن الله لم يختصه بالفضل، وأن هناك من هم أذكى منه وأقدر منه، وأكثر قبولاً عند الناس منه.
ومسألة القبول هي من الله عز وجل، فإذا رضي الله عز وجل عن العبد جعل له قبولاً عند الخلق، فإذا مضى بهذا التواضع انتفع كثيراً بعلمه، وانتفع به، إنما إذا اعتقد أنه هو العالم المحقق المحرر، فإنه لا يكاد ينتفع، ولا يجعل الله عز وجل له لسان الصدق الذي يبحث عنه كل طالب علم.