للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحرص على الأوقات]

ثم قال: (وحرصٌ) وأعظم الحرص إنما يكون على رأس المال، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو الوقت؛ لأن العمر هو الوقت، فإذا ضيع الإنسان رأس ماله، فسيغبن هناك، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

أصل (الغبن): شراء الشيء بسعر عالٍ، وبيعه بسعر أقل، فهذا خسر في كلا مرتين: خسر في المرة الأولى عندما اشترى بأكثر من الثمن، وخسر في المرة الثانية عندما باع بأقل من الثمن، فهذا هو أصل الغبن، (فنعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) دل على أن المغتنمين لهما لهاتين قليل (الصحة والفراغ) والعلم لا يتأتى إلا بهما، فلا بد من فراغ ولا بد من صحة تعينك على الطلب.

وإذا ضيع طالب العلم وقته -لاسيما في بدء الطلب- في الجدال وعمل الحلقات فلن يصل أبداً، وعليه أن يطالع سير العلماء السالفين ليعلم كيف كانوا يستثمرون أوقاتهم؛ لأن كثيراً من الناس يضيع وقت طالب العلم بدعاوى كثيرة: دعوى الشوق، ودعوى السؤال، ودعوى الرؤية أي دعوى، فلا ينبغي لطالب العلم أن يوافق الناس على أهوائهم في بداية الطلب، وإلا سيخسر خسراناً كبيراً؛ لأنه سيضحي برأس ماله والعائد عليه قليل.

ما الفائدة في جلوس جماعة من الغلمان -الذين هم حديثو عهد بطلب العلم- جلسة إلى الفجر يقررون فيها مسألة خلافية، وكل واحد إنما ينقل قول من قلده فقط؟ ليلة كاملة ذهبت على طالب العلم لم يستفد منها، بل قد توغر الصدور؛ لأنه دخل في الخلاف قبل أن يتأدب، لذلك من الممكن أن تتقطع الأواصر، وهذا هو الواقع الآن! طالب العلم المفلح هو الذي يضرب على نفسه حصاراً في أول الطلب، ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم الصمت، ثم التعلم، ثم العمل، ثم الدعوة)، وأنت طالما أنك لم تتضلع ولم تصبح رجل دعوة فلا تنشغل بها، فالدعوة ليست فرضاً عينياً عليك، فأنت في سعة من الوقت، والعلماء المتقدمون كانوا يحرصون جداً على الوقت؛ لأنه رأس المال.

ذكر الإمام النسائي في جزء له لطيف أملاه على بعض أصحابه أن إبراهيم النخعي ورجلاً آخر كانوا بعد صلاة العشاء يتذاكرون في العلم، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

وفي مقدمة الجرح والتعديل لـ ابن أبي حاتم كان الإمام أحمد بن حنبل والإمام علي بن المديني والإمام يحيى بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون بعدما يصلون العشاء يتدارسون في علل الأحاديث، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

فطالب العلم لا بد أن يكون حريصاً على وقته في بداية الطلب، وإذا أهدر رأس ماله كيف يصل؟ وأنى له أن يصل؟! والليل والنهار يتجددان بصفة دائمة، لاسيما وأن معظمنا بدأ يطلب العلم بعد سن متأخرة، وعندما جاء يطلب العلم لم يجد من المشايخ من يجلس معهم ويطلب العلم على أيديهم، فهو يعاني من مصيبتين معاً: الأولى: طلاب العلم في سن متأخرة، والثانية: أنه لا يجد الشيوخ الذين يدرس عليهم هذا العلم، ومصيبة ثالثة وهي: عدم وجود المعين على الطلب، فقد يتوفر لك شيخ، وقد تتوفر لك همة؛ ولكن لا يتوفر لك ظروف مناسبة: إما أنك مسئول عن أسرة، وإما أن أباك يريدك مثلاً في جهة أخرى.

وإما أن الجو العام سيعرقل في سبيل الطلب؛ لأن المتقدمين لم يكن يشغلهم شيء إطلاقاً، كان الآباء والأمهات عوامل مساعدة للطلبة، فأم سفيان الثوري كانت تقول: يا بني، اذهب فاطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، انظر إلى أم يصل بها فقه النفس إلى هذا الحد، تغزل النسيج وتبيعه وتكفي ولدها.

وكانت أم الإمام الشافعي تهيئه وهو ذاهب إلى مالك، وكانت توصيه وتضع له أرغفة، فكان يحاول بقدر المستطاع ألا يكون أكولاً حتى لا تأخذه هذه الأرغفة أطول وقت.

عبد الله بن أبي داود عندما ذهب يسمع من أبي سعيد الأشج -وهو أكبر شيخ له ومن أجل شيوخه رحمه الله- قال: دخلت إلى أبي سعيد الأشج لأسمع منه، فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء، فكنت كل يوم آكل عدداً من حبات الفول، ونحن الواحد منا اليوم يضع نصف كيلو في (السندويتش) انظر الفرق! - قال: فما نفد الفول إلا وكنت قد كتبت عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث.

ثلاثون كيلو فول يعادل ثلاثين ألف حديث كتبها عن شيخ واحد فقط! وابن أبي داود له مشايخ كثيرون جداً، وعلماء المسلمين الأوائل لم يكونوا أيتاماً في الشيوخ، بل كان أقل واحد فيهم له مائتان وخمسون وثلاثمائة شيخ وهو يبكي على نفسه يقول: لم أقابل أحداً، وهذا الإمام الطبراني له ألف ومائة وتسعون شيخاً.

وحتى لا يكون هناك يأس ننزل إلى المتأخرين قليلاً، فهذا الإمام الذهبي صاحب سير أعلام النبلاء، وتلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد بلغ معجم شيوخه حدود ألف ومائة ونيف، لما ذكر حرف (الزاي) وجدت سبعة عشر شيخة له اسمها (زينب) فقط، من النساء اللاتي تلقى عليهن العلم، وقد تجاوزن المائة والعشرين.

فكيف كان العلم عندهم؟ كم من العلم كان عند هؤلاء؟! نحن كمتأخرين ينبغي للإنسان أن يخجل إذا ذكر عند المتقدمين، إذ لم يبق معنا من العلم إذا ذكر الأول إلا فضل بزاق، والإمام أحمد بن حنبل لو وزع علمه علينا لأصبح كل واحد منا يصبح عالماً فحلاً، فكيف إذا نشر علمه ووزعه؟! إذاً: الشخص حين يأتي يناقش علوم المتقدمين فلا يغتر بنفسه، لا يلبس ثياب غيره، حتى إنه إذا تعقب أحداً يقول: المتقدم أخطأ، ولابد أن تتعامل معه بلطف، ولابد أن تعرف قدره ومقداره، وتعرف قدرك ومقدارك، فالعلماء المتقدمون كانوا يسابقون الزمن، كان ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو يمشي، وهو في الخلاء.

أي: يدخل الخلاء وهو جالس في الخارج يقرأ عليه! بل وصلت الهمة أن الإمام الدارقطني كان يُقرأ عليه وهو يصلي النافلة! والخطيب البغدادي -كما ذكر ذلك ابن الجوزي في المنتظم في ترجمته- قال: كان يمشي في الطريق وهو يطالع جزءاً.

فهؤلاء العلماء كانوا حريصين جداً على الوقت.

وما أجمل ما يحدثنا به أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وهذا الرجل له مصنف اسمه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وهو خلاصة ما كان يخطر له، نشر منه مجلدان هي كالأحاجي والألغاز، حين تقرأ في المجلدين تشعر أنك لا تفهم كلمة، فحين يكون نائماً ويخطر على باله خاطرة يقوم يكتبها وينام مرة أخرى، وكتاب (الفنون) جاء بالتتابع هكذا، وابن عقيل ليس له كتاب واحد فقط، بل له كتب عدة، وقد كان رجلاً له أولاد وزوجة وله مشاكل، والعوام كانوا يأتون إليه، فكيف صنف مثل هذه الكتب؟ يقول عن نفسه: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار دق الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.

فهو يقول: بدلاً من أن أمضغ خمس دقائق وأجعلها دقيقاً، وأبلها بالماء، وأسكت شدة الجوع وأنتهي؛ لأن المطلوب من الأكل: أنك لا تشعر بوقع الجوع.

وكان يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة، فإذا استطرحت فأعمل فكري حال استطراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره.

وابن الجوزي استفاد من صحبة ابن عقيل، فقال: إن كثيراً من العوام يطالبك بالزيارة لأنه يدعي الشوق، وأنت لو رددتهم صارت بينك وبينهم نفرة، ولو وافقتهم ضاع عمرك فماذا أفعل؟ قال: فصرت أهيئ للقائهم حزم الدفاتر، وبري الأقلام، وقطع الورق، فإن هذا شيء لابد منه ولا يحتاج إلى فقه، فأنا لدي كتب مبعثرة، فأول ما يأتي أحد لزيارتي أبدأ بترتيبها وتحزيمها وتنظيف التراب وغير ذلك، ويمكن أن أقول له: شارك بيدك معي؛ لأن هذه أشياء ضرورية، فأنا لو تركت مثل هذه الأشياء واستجبت لهؤلاء العوام ضاع عمري لذلك فهؤلاء العلماء صنفوا كتباً كثيرة جداً، وأنت تندهش أن ابن الجوزي له ستمائة مصنف، منها ماقد يصل إلى عشرين مجلداً، ومنها خمسة مجلدات وعشرة مجلدات، وهذا إنما حصلوه بالحرص على العمر