من المعروف أن القبر هو أول منازل الآخرة، وهذه الخمسة وعشرون سنة! تعد (تأهيلة) فبعض الناس يقضي خمسة وعشرين عاماً في السجن على ظهر الحياة، ثم يخرج ليستأنف حياته من جديد.
أين الذين ماتوا من عهد عاد؟ عشرات القرون ومئات القرون مرت على أناس يعذبون، وهم في أول منازل الآخرة، وتلك الأعوام لا تقاس بخمسة وعشرين عاماً فقط من الحياة على الأرض؟! فما أشد غربة المفقود إذا لم يكن له زاد يتزود به.
وآية ذلك تصور أنك في غرفة بمفردك ولا أقول: تحاسب أو تعذب أو تؤاخذ، فلا أحد يطرق عليك الباب، ولا أحد يتصل بك، ولا أحد يكلمك، وظللت على هذا مائة عام، أضف إلى ذلك أن الإنسان جبل على حب الخلطة، فإذا لم يكن له أنيس من نفسه وصبّر نفسه ووطّنها على ذلك فإنه يصاب بالملل والضجر، وإنما سمي الإنسان إنساناً لأنه يأنس، وتأمل قول الله عز وجل:{إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر:١٥] إذا انقطع عنك حبل أهلك، وحبل ولدك؛ شعرت بحجم الغربة، فهذا الميت يا له من غريب! كم من حسرات في بطون المقابر!! لو أذن لكل ميت أن يتكلم لقال: أهلكتني (سوف) و (السين) سأتوب سوف أتوب سأتصدق سوف أتصدق، سأصلي سوف أصلي وهكذا.
مات كثير من الناس ولم يحققوا أمنياتهم، فمات وفي نفسه غصة، لكنه بكى سنين عدداً يؤاخذ على خمسة وعشرين سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا ما يستقبلنا إذا مات الإنسان.
قال صلى الله عليه وسلم:(إن الميت ليسمع وقع نعالهم إذا انصرفوا عنه) وتأمل! رجل صار فريداً يسمع وقع نعال ذويه وهم يغادرونه ويتركونه، ويسأل السؤال المعتاد الذي أعلمنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أسئلة هي محصلة خمسة وعشرين سنة: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ لقد ظل حياته كلها لا يفكر في الإجابة عن هذه الأسئلة، والعجيب أنه في ساحة العرض، وإذا بعث العباد جميعاً، وخافوا جميعاً، يقول بعضهم لبعض: ألا منقذ ينقذنا مما نحن فيه؟ فقال بعضهم لبعضٍ: هلم إلى الأنبياء سبحان الله! ألم تر إلى هذا اللؤم؟ تذهب للنبي الآن تريد شفاعته، وقد ظللت طيلة حياتك لا تعرج على سنته، وتكتب ضد الذين يلتزمون بسنته، وتحيك المؤامرات ضد هؤلاء الذين يقتدون بسنته! تريد شفاعته الآن؟! هذه هي طبيعة اللئيم.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم:{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:١١] أيها المرتشي الذي ارتشيت: لماذا قبلت الرشوة؟ يقول: أطعم أولادي؟ لماذا تاجرت بالمحرمات؟ يقول: لأولادي.
فلماذا تضحي بولدك الآن؟ أنت لا تعرضه لشيء يسير، أنت تعرضه لنار جهنم، التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها:(يؤتى بأنعم أهل الأرض -الذي ما ذاق بؤساً قط، ولا مرضاً قط، وكان سيداً مطاعاً، تعقد عليه الخناصر، يؤتى بهذا الرجل- فيغمس في النار غمسةً واحدة فقط ثم يخرج، فيقال له: هل مر بك نعيم قط -أرأيت في حياتك كلها يوم راحة-؟ يقول: لا، وعزتك ما مر بي نعيم قط) فكيف إذا كان من الكافرين؟! وهذه ما هي إلا غمسةٌ واحدة فقط، فما بالك الآن أيها المجرم تعرض ولدك لدخول النار، {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:١١]، قال: رب! إذا لم يكف ولدي {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:١٢] خذوا امرأتي وخذوا أخي، وإذا لم يكف ولدي ولا امرأتي ولا أخي {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:١٣] خذوا الأسرة بكاملها، وإذا لم تكف الأسرة بكاملها، {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}[المعارج:١٤] اطرحهم جميعاً في جهنم، المهم أن أنجو أنا.
فانظر إلى الأنانية! هل الأنانية لم تكن موجودةً عنده؟ بلى كانت موجودةً في الدنيا لكن لم يظهر مقتضاها، بدليل أن هذا الإنسان لو وقف رجلٌ أمامه لداسه، وكل إنسان عنده نموذج من الغبن وقلة الوفاء، لكن لم يظهر مقتضى لهذا المجرم حتى يضحي هذه التضحية، لكن لها ثمرة في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول عن هذا اليوم العظيم {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}[هود:١٠٣ - ١٠٤].